التذييل والتكميل
في شرح
كتاب التسهيل
ألفه
أبو حيان الأندلسي
حققه الأستاذ
الدكتور حسن هنداوي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فرع القصيم
الجزء الأول
دار القلم
دمشق
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
الحمد لله رب العالمين قال شيخنا الأستاذ العالم الأوحد الحافظ العلامة أثير الدين أوحد العلماء العاملين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي الأندلسي أيده الله: الحمد لله المتفرد بشريف الاختراع، المتفضل بلطيف الاصطناع، الذي أوجد عالم الإنسان، محفوفًا بمزايا الإحسان، مهيأً لإدراك العلوم، قابلًا للمنقول منها والمفهوم، وجعل من أشرف المعارف، ما تحلى به جنان العارف، من علم النحو الذي هو المرقاة إلى فهم كتابه، والسبيل المؤدية إلى تعرف خطابه، والصلاة والسلام على المنتخب من جرثومة العرب، النامي من دوحة الحسب، السامي من أطهر نسب، محمد صلى الله وسلم عليه، وعلى آله المنتمين إليه، ما تبلج الزهر، وتأرج الزهر، والرضا عن صحبه مقتبسي أنواره،
1 / 5
وملتمسي آثاره، ما أشرقت بالبدر الخضراء، وتشوقت للقطر الغبراء.
وبعد فإن كتاب (تسهيل الفوائد) في النحو لبلدينا أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني مقيم دمشق ﵀ أبدع كتاب في فنه أُلِّف، وأجمع موضوع في الأحكام النحوية صنف، فهو -كما قال مصنفه فيه- جدير بأن يلبي دعوته الألباء، ويجتنب منابذته النجباء. ولما كان مفرط الإيجاز، غريب الاصطلاح، حاشدًا لنوادر المسائل، عرض فيه من الاستعجام، ما أدى إلى التأخر عنه والإحجام، فنبذه الناس بالعراء، واطَّرحوه اطراح واصل للراء، وأصبح حاليه عطلًا، ومعلمه غفلًا، وأنواره لا تتبلج، وأزهاره لا تتأرج، ولاستعصائه قلما قرأه أحد على مؤلفه، ولا تجاسر على إقرائه نحوي بعد موت مصنفه.
وكان ﵀ كثيرًا ما يعنى بتحريره، ويولع بتهذيبه وتغييره، فيزيد وينقص، وينقح ويلخص، فنسخت من هذا الكتاب نسخ تنافر مبناها، واختلف لفظها ومعناها، إلى أن عرض له ﵀ أن يشرحه، ويفسره ويوضحه، فغير أكثر ما شرحه، ونظر إليه بعين العناية وتصفحه، وانتهى في شرحه إلى باب "مصادر غير الثلاثي"، وذلك أشف من نصفه، وعاقه عن إكماله محتوم حتفه.
1 / 6
فاستخرجت فص هذا الكتاب مما أودعه في الشرح إلى حيث انتهى، وجمعت على باقي الكتاب نسخًا إليها في الصحة المنتهى؛ لأنها طرزت بخطه، وحررت بين يديه بضبطه، فثقفته حتى استقام مناده، وظفر بمطلوبه منه مرتاده. وأخذت في إقراء هذا/ الكتاب، أنبه حامله، وأنوه خامله، وأفتح مقفله، وأوضح مشكله، وأحيي منه ما كان مواتًا، وأجدد ما عاد رفاتًا.
وكان المانع من وضع كتاب يتضمن شرح جميعه وتكميله، واستدراك ما أغفل من الأحكام وتذييله، ومناقشته فيما حرر، والانتقاد لما فيه قرر، ما كان قد تقسم الخاطر من الاشتغال بالاكتساب، المزري بذوي المعارف والأحساب، وأنى يكمل انتحال، لمن توالى عليه أمحال، أو يتحصل إقبال، لمن تقسم منه البال. ومع ذلك فطالما سألني سائلون من أهل مصر والشام في شرح باقيه وتكميله، وانتقاده وتذييله، ليكون ذلك عجالة يحظى بها المستوفز، ويرضى ببلوغ موعودها المستنجز، وتجلو عرائسه في منصة التوضيح، وتبرز نفائسه من التلويح والتصريح. ومما خوطبت به من دمشق المحروسة كلمة، أولها:
تبدي، فخلنا وجهه فلق الصبح يلوح لنا من حالك الشعر في جنح
ومن آخرها:
إليك -أبا حيان- مني تحية يفوق شذاها مسك دارين في النفح
بدأت بأمر تمم الله قصده وكمله باليمن منه وبالنجح
وسهلت تسهيل الفوائد محسنًا فكن شارحًا صدري بتكملة الشرح
1 / 7
ومما كتب به بعض الأدباء من حماة المحروسة لأخيه بمصر -حرسها الله- ما نصه: "كان جماعة من المحصلين بحماة شرعوا في بحث (تسهيل الفوائد)، فإنه كتاب لم ينسج على منواله، ولم تسمح قريحة بمثاله، غير أنه يصد الناس عنه كونه غير كامل الشرح، ولم يتقدم أحد من فضلاء هذه الصناعة إلى تكميله، فندبني بعض المشتغلين إلى الكتب إلى الإمام أثير الدين لالتماس تجريد نظره الكريم، إلى هذا المرام العظيم، والخطب الجسيم، الذي هو أولى ما صرفت إليه العنايات، واستغرقت في النظر فيه نفائس الأوقات، فإنه غرة في جبهة الزمان، وخال في خد نتائج الأذهان. فالأخ -حفظه الله- يعرفه بأن هذا مقام قد اعترف أبطال هذا الشأن بأنهم عنه في موقف التقصير:
لقد نادى لسان العجـ ـز في الجم الغفير
بأن لن يصلحوا طرا لذا الأمر الخطير
سوى الحبر الإمام الأو حد المولى الأثير
أبي حيان ذي الإحسا ن والفضل الغزير
فالأخ يقفه على هذه السطور، ويلتمس منه الإجابة إلى تكميل شرح الكتاب المذكور، ولو بمثل تفتح مقفله، وتسم مغفله. انتهى كلام هذ السائل، وما تلطف به من الوسائل.
فحين كثر تسألهم، وتعلقت بالإجابة آمالهم، أسعفتهم فيما طلبوا/، وانتدبت لما إليه رغبوا، هذا على حين توالي نوى غربة، وإقامة بدار غربة، وتفريق من الأوداء، وتفويق سهام الأعداء، والتباس
1 / 8
الذهب بالرغام، والتماس الرتب من الطغام، وترقي الجهال إلى مناصب العلماء، وتوقي طعن اللؤماء على الفهماء، واحتياج لمن يؤثر خسيس الرذائل، على نفيس الفضائل، وتقدم ذوي النقائص، على كريم الخصائص، واقتناع بعلالة من بلالة، وسلالة من زلالة، ونغبة من دأماء، وتربة من يهماء، اللهم صبرًا وسترًا، لما اجترحناه وغفرًا.
ولما تكمل شرح الخمسين اللذين لم يشرحهما المصنف على المنهج الذي قصدناه، والمنزع الذي أردناه، في كتاب سميناه بـ"التكميل لشرح التسهيل"، كان من بعض المعتنين بهذا العلم تشوف إلى أن أشرح الكتاب كاملًا، ولا أترك منه مكان حلي عاطلًا، ليكون الكتاب كله جاريًا في الشرح على نسق واحد، وحاويًا ما أغفل من الزوائد والفوائد، فالشارح لكلام غيره ليس كالشارح لكلام نفسه، ذلك ينظر إليه بعين الاستدراك والانتقاد، وهذا يشرح كلام نفسه، وله في حسن الاعتقاد.
فأخذت الآن في ابتداء الشرح من أول الكتاب، وانتدبت إليه أحق الانتداب، إذ كانت علائق الخمول قد انقطعت، وعوائق الاكتساب قد ارتفعت، فحصل ما فيه نقع غليل، وبرء عليل، وانشراح صدر، وارتفاع قدر، بتيسير ما فيه لمقتنع كفاية، وتفسير كتاب الله آية آية، وذلك بما أتاح الله على
1 / 9
يدي المقر العالي العالمي العادلي السيفي سيف الدين أرغون نائب السلطنة المنصورية الناصرية، أمير إن ذكرت المعارف فهو إمامها، أو أسديت العوارف فهو غمامها، أو فخرت الممالك فهو همامها، أو جلت السوابق فهو أمامها، غيث الورى، ليث الشرى، محيي العدل، مميت الحيف، جامع فضيلتي القلم والسيف، اقتضت له السعادة الإلهية أن خلدت اسمه في هذا التصنيف، وأعظم له من تنويه وتشريه، فمحامده تتلى في تصانيف العلوم بألسنة الأقلام، وذكره مخلد على ممر الليالي والأيام، إذ فضائله النفسانية هي الباعثة على تصانيف العلوم، وفواضله الإحسانية ملقحة الأذهان والفهوم، أشمخ من غمام، وأوقر من
1 / 10
شمام، وأنور من بدر تمام:
تيمن بها من غرة نورها الشمس أضاءت دجى الأيام، فارتفع اللبس
وألمم بمغنى دولة ناصرية تكنفها الإقبال والنصر والأنس
تولى لها التدبير أروع ماجد كثير التوقي، شأنه الجود والبأس
ومن يك سيف الدين نائب ملكه ينم وجفون الدهر عن ملكه نعس
أمير همام ذو وغى وسياسة تغاير في عليائه الطرف والطرس
/إليه انتمت كل المكارم، وانتهت فبالشخص منه يفخر النوع والجنس
مغيث نفوس إن عصت، ومفيدها إذا ما أطاعت، فهو يجرح أو يأسو
كأن الورى جسم لديك دواؤه وأمرك في تدبيره الروح والنفس
لا زال للمعارف يبديها، وللعواطف يسديها، وللمشكلات يشرحها، وللمقفلات يفتحها، وللفضائل يجدد رفاتها، وللفواضل يحيي مواتها، وللممالك يدبرها ويرأبها، ولأشتات الخيرات يجمعها ويشعبها.
فدونك - أيها السائل- من هذا الشرح كتابًا غريب المثال، قريب المنال، هبت عليه النفحات اليمانية، واجتمعت فيه المعاني الثمانية، وهي التي يصنف فيها العلماء، ويتطلبها من التأليف الفهماء: معدوم قد اخترع، ومفترق قد جمع، وناقص قد كمل، ومجمل قد فصل، ومسهب قد هذب، ومخلط قد رتب، ومبهم قد عين، وخطأ قد بين. وإذا واجهك من هذا
1 / 11
الشرح محيًا يفوق الشمس حسنًا، وشافهك خطابٌ يروع لفظًا ويروق معنى، فادع الله بالرحمة لمن كشف لك قناع محياه، وأنشقك أريج رياه، وأعلقك بسني الرتب، وأوصلك إلى مقصودك من كثب.
ولما علقت ذهب هذا الكتاب على نار الفكر حتى خلص، وكملت بمحسن الصنعة ما كان قد نقص، وذيلت على فص "التسهيل" وشرحه ما قد قلص، سميته بـ"التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل". ومن الله استمد التأييد والعون، وأسأل العصمة فيما أرومه والصون، لا رب غيره، ولا مرجو إلا خيره.
1 / 12
-[ص: باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به
الكلمة لفظ مستقل دال بالوضع تحقيقًا أو تقديرًا أو منوي معه كذلك. وهي اسم وفعل وحرف.]-
ش: ذكر المصنف باب شرح الكلمة، ولم يذكر باب حد الكلمة؛ لأن الحد للشيء عسير الوجود، فعدل عن لفظ "حد" إلى لفظ "شرح"، وكلاهما يشترك في كشف المحدود وبيانه، وكان ينبغي أن يبدأ أولًا بشرح "النحو" وبيانه، وحينئذٍ يشرع في شرح ما ذكر؛ لأن الناظر في علم من العلوم لابد له أولًا من معرفته على سبيل الإجمال، ثم بعد ذلك يتعرف ما احتوى عليه ذلك الفن على سبيل التفصيل. وقد كثر ما صنف الناس من الكتب في هذا العلم، وما تعرض أحد منهم لحده إلا القليل، قال صاحب "المستوفي": "النحو صناعة علمية ينظر بها صاحبها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم ليعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى". وقال صاحب "البسيط":
1 / 13
"النحو هو علم بالتغييرات اللاحقة للكلم ومدلولاتها". وقال/ ابن هشام: "النحو علم بأقيسة تغير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب". وقال صاحب "المباحث": "النحو علم يبحث فيه عن أحوال الكلم العربية إفرادًا وتركيبًا فقط". وقال صاحب "المقرب": "النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها". وقال صاحب "البديع": " النحو معرفة أوضاع كلام العرب ذاتًا وحكمًا واصطلاح ألفاظ حدًا ورسمًا".
قوله الكلمة لفظ شرع المصنف ﵀ في حد "الكلمة" المصطلح عليها في النحو؛ إذ في اللغة تنطلق على أحد أقسامها من الاسم
1 / 14
والفعل والحرف، وتنطلق على الكلام، نحو ما روى "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل .......................... "
وكقوله تعالى: ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا﴾، وكقوله ﵇ "الكلمة الطيبة صدقة".
ولغة الحجاز "كلمة" على وزن نبقة، ويجوز في "الكلمة" تسكين اللام مع فتح الكاف وكسرها، قيل: وهي لغة تميم.
فقوله لفظ جنس يشمل المحدود وغير المحدود، وهكذا شأن الحدود، تبدأ أولًا بالجنس، ثم تأتي بالفصل، لكن المصنف أخذ جنسًا أبعد، وترك جنسًا أقرب، وهو "القول" إذ اللفظ ينطلق على المهمل كـ"ديز" مقلوب "زيد"، و"رفعج" مقلوب "جعفر"، وينطلق على الموضوع، فلو أخذ الجنس الأقرب كان أحسن، فكان ينبغي أن يقول: الكلمة قول.
وقال المصنف ﵀ في شرح كلام نفسه: "تصديره بـ"اللفظ"
1 / 15
مخرج للخط ونحوه مما هو كاللفظ في تأدية المعاني" انتهى.
وهذا ليس بجيد لأن الجنس في الحد لا يؤتى به للاحتراز، لا يقال في قولهم: "الإنسان حيوان ناطق" إنه احترز بـ"حيوان" مما ليس بحيوان. ولم يتقدم شيء يشمل الخط واللفظ فيحترز بـ"اللفظ" عنه إلا إن اعتقد أن "الكلمة" التي هي المحدود تشمل الخط واللفظ، فهذا في غاية الفساد لأن المحدود ليس من الحد، ولأن "الكلمة" لا تنطلق على الخط لغة، وإنما ذلك "الكلام" ذكروا أنه ينطلق على الخط على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقد اتبع المصنف في ذلك ﵀ ابن عصفور، فإنه حين حد "الكلام" فقال: "الكلام هو اللفظ" إلى آخر الحد قال: "قولنا" لفظ "احترز به مما يقال له "كلام" لغةً، وليس بلفظ، كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء". فجعل ابن عصفور ذكر الجنس محترزًا به، ونقله المصنف ﵀ من حد "الكلام" لابن عصفور إلى حده الذي علمه لـ"الكلمة".
وقال المصنف في الشرح: "واللفظ أولى بالذكر من اللفظة لأن اللفظ يقع على كل ملفوظ حرفًا كان أو أكثر، وحق اللفظة أن لا تقع إلا على حرف واحد لأن نسبتها من اللفظ نسبة الضربة من الضرب، ولأن إطلاق اللفظ على الكلمة إنما هو من باب إطلاق المصدر على المفعول به/ كقولهم للمخلوق خلق والمنسوج نسج، والمعهود في هذا استعمال المصدر غير المحدود بالتاء، ولذلك قلما يوجد في عبارات المتقدمين "لفظة" بل الموجود في عباراتهم "لفظ" كقول "س"، وأورد ن استعماله "لفظًا" في مواضع. انتهى.
1 / 16
وقال بعض أصحابنا: اللفظ جمع لفظة، وأقل الجمع ثلاثة، وإذا كان هذا صحيحًا بطل أن يؤخذ "لفظ" في حد الكلمة لأنه إنما تحد الماهية، فلا يجعل في حدها ما يدل على أقل الجمع، وهو ثلاثة. ونظير ذلك أن يقال في حد "الإنسان": الإنسان حيوانات نواطق. وهذا لا يجوز.
والجواب: أنا لا نسلم أن اللفظ جمع لفظة، ولا أن الضرب جمع ضربة، فيلزم أن يكون أقله ثلاثة، بل الضرب واللفظ ونحوهما مصادر صالحة للقليل والكثير لأنها أسماء أجناس، فيدل ضرب على مطلق الضرب، ولذلك يقول من ضرب مرة واحدة: ضربت ضربًا، فيصدق على المرة الواحدة لفظ ضرب، فإذا أردت التنصيص على المرة الواحدة قلت ضربة بالتاء الدالة على الإفراد نصًا. ولو كان ضرب أو لفظ جمعًا -وأقل ما يقع عليه ثلاثة- لامتنع أن يقول من ضرب مرة واحدة: ضربت ضربًا؛ للتناقض، وإنما يقال ذلك فيما ليس بمصدر، نحو كلمة وكلم ولبنة ولبن ونخلة ونخل وجوزة وجوز. ذكر المصنف ﵀ في هذا أن تجريده من التاء يستغنى به عن تكسير واحده الممتاز بالتاء في الكثرة، فتقول كلم ولبن ونخل وجوز، وجمعه بالألف والتاء استغني به عن تكسيره في القلة، فتقول: كلمات ولبنات ونبقات ونخلات وجوزات.
ثم ناقض هذا الكلام، فقال: "الكلم اسم جنس جمعي كالنبق والضرف
1 / 17
واللبن، وأقل ما يتناول ثلاث كلمات". وتبع في ذلك ابن جني، زعم أن اسم الجنس أقل ما يقع على ثلاثة، فلذلك أطلق النحويون الكلم على الاسم والفعل والحرف، قال س: "هذا باب علم ما الكلم من العربية، فالكلم اسم وفعل وحرف"، وقال أبو علي: "ما يأتلف من هذه الكلم الثلاث كان كاملًا مستقلًا" ومن رأى أن اسم الجنس إذا كان بغير تاء كان للكثير، وبالألف والتاء كان للقليل، استعذر على إطلاق الكلم على الاسم والفعل والحرف، وسيأتي ذلك.
وقوله مستقل احترز به من بعض اسم نحو الياء من زيدي وتاء مسلمة، وبعض فعل كهمزة أعلم ألف ضارب، فكل منها لفظ دال بالوضع، وليس بكلمة لأنه غير مستقل. هذا شرح المصنف كلامه.
واحتيج إلى أن يتحرز بـ"مستقل" من بعض اسم وبعض فعل لأنه أخذ جنسًا بعيدًا، وهو اللفظ، فلو أخذ أقرب منه -وهو القول- لم يحتج إلى التحرز بقوله: "مستقل" لأن بعض اسم وبعض فعل لا يقال له "قول".
ولقائل أن يقول: لا أسلم أن الياء في زيدي والهمزة في أعلم ونحوهما لفظ دال بالوضع كما زعم المصنف، بل مجموع اللفظة دل على أن الشخص منسوب لزيد، وكذلك لفظ أعلم أتى معدى؛ لأنه لو كان كل واحد من هذه الأبعاض لفظًا/ دل بالوضع على معنى -وهو النسب والتعدية- لكان باقي اللفظ إما أن يدل على معنى أو لا يدل، لا جائز أن لا يدل لأنه يكون من المهملات، ولا جائز أن يدل لأنه إذا دل فإما أن يكون مدلوله مدلول ذلك البعض أو غيره، لا جائز أن يكون مدلول ذلك البعض لأنه كان يستغنى
1 / 18
بأحدهما عن الآخر، والأمر ليس كذلك، ولا جائز أن يكون غيره لأنه يلزم من ذلك أن تكون الكلمة يدل جزء من أجزائها على جزء من أجزاء معناها، وذلك من خصائص المركبات، ولا يكون ذلك من المفردات، فبطل أن يكون بعض الكلمة لفظًا دالًا بالوضع على معنى، وإذا كان كذلك دل "زيدي" على شيء منسوب لـ"زيد"، ودل "أضحك" على فعل ماضٍ صادر من فاعل ذلك لشخص، ويلزم من هذا الفعل اتصاف المفعول بالضحك فيما مضى، وكذلك تقول في جميع ما ذكره المصنف.
وقوله دال بالوضع قال المصنف: "احتراز من اللفظ المهمل كـ"ديز" مقلوب "زيد"، فإنه يدل سامعه على حضور الناطق به غير ذلك دلالة عقلية لا وضعية" انتهى.
وهذا الذي ذكر أنه احترز به من المهمل ليس بجيد لن قبل هذا الفصل فصل الاستقلال، واللفظ المهمل لا يدخل تحت قوله: "مستقل" فيحتاج أن يحترز عنه بقوله: "دال بالوضع".
وقال غيره: احترز بالوضع مما يدل بالطبع كقول النائم إخ، فإنه يدل على استغراقه في النوم، وعند السعال إح إح، فيفهم منه أذى الصدر، واللفظ المصحف إذا فهم منه معنى، فكل هذا لا يسمى كلمة لأن دلالتها على ذلك المعنى لم تكن بالتواضع.
قيل: ودخل تحت قوله: "الوضع" الجمل المسماة بها نحو برق نحره وتأبط شرًا، فبعد التسمية بالجملة هي كلمة لأن جزأها لا يدل على جزء معناها، فكانت مفردة بالوضع.
1 / 19
ويدخل في هذا الحد "الكلام" عند من يرى أن دلالته على معناه وضعية، فإن الكلام لفظ مستقل دال بالوضع.
ويخرج عن هذا الحد ما استعمل في غير موضوعه على سبيل المجاز أو النقل، كـ"أسد" المراد به الشجاع، وكـ"أسد" المراد به شخص، فإنه منقول من الحيوان الموضوع له لفظ "أسد"، فإذا استعمل في أحد هذين المعنيين فلا يكون كلمة إذ ذاك لأنه نقص منه قيد الدلالة بالوضع، إذ يصدق عليه -والحالة هذه- أنه لفظ مستقل غير دال بالوضع.
وقوله تحقيقًا وتقديرًا مثال التحقيق رجل، فهذا دال على مسماه تحقيقًا، ومثال التقدير أحد جزأي العلم المضاف كامرئ القيس، فمن حيث المدلول هو كلمة واحدة، ومن حيث التركيب هو كلمتان لأن المضاف والمضاف إليه لا يكونان إلا اسمين أو في تقدير اسمين، وتسمية أحد جزأي العلم كلمة هو على طريق المجاز. ولو استغنى عن هذا التقسيم في الدلالة بالوضع إلى التحقيق والتقدير لكان حسنًا، وكان تقل به ألفاظ الحد.
وقوله أو منوي معه هذا قسيم لقوله: "لفظ" لأن الكلمة على/ قسمين: ملفوظ لها، ومنوية مع اللفظ، كالفاعل في أفعل، وأفعل، ونفعل، فلو لم يذكر هذا لكان بعض المحدود -وهو ما لا يلفظ به- قد خرج عن الحد، والمعنى: أو غير لفظ منوي مع اللفظ.
وقوله كذلك قال المصنف: "أشير بـ"كذلك" إلى الدلالة والاستقلال المنبه عليهما" أي: معنى هذا المنوي مع اللفظ المستقل الدال بالوضع.
1 / 20
وادعاء التركيب في نحو افعل؛ مشكل، وادعاء الإفراد فيه مشكل. أما الأول فلان التركب من عوارض الألفاظ، ويستدعي تقدم وجود ولا وجود، فلو كان وجد تم قرض له حذف لم يشكل. وأما الثاني فلأن افعل مفيد إفادةً المركب، الذي هو الكلام، فلا يمكن دعوى الإفراد فيه.
قال المصنف ﵀: «واحترز به من الإعراب المنوفي في نحو فتى، فإنه يصدق عليه أنه منوي مع اللفظ المفيد، ولكنه غير مستقل ولا منزل منزلة المستقل، فإن الإعراب بعض الكلمة المعربةً، وإذا لفظ به لم يدخل في مدلولات الكلمةً، فهو بأن لا يدخل حين لا يلفظ به أحق وأولى» انتهى.
وفى قوله: «فإن الإعراب بعض الكلمة المعربةً، فيه نظر، وذلك أن الإعراب على ما اختاره أكثر متأخري أصحابنا هو معنوي لا لفظي، واللفظ يدل عليه، فإذا كان معنويًا فلا يكون بعض الكلمة المعربةً، وأما على ما اختاره المصنف من أنه لفظي فإنه زائد على ماهية الكلمة، وإذا كان زائدًا على ماهية الكلمة فلا يكون بعض الكلمة لأن بعض الشيء جزء من الشيء، ومحال وجود الماهيةً مع فقد جزء من أجزائها، وقد وجدنا ماهية الكلمة دون إعراب، فدل على أنه ليس بعضًا منها.
وجاء في هذا الحد ذكر "أو" مرتين، وقالوا إن الحدود لا يكون فيها ترديد، فلا يؤتي فيها بـ "أو".
وقوله وهي اسم وفعل وحرن ذكر النحويون دلائل لحصر الكلمةً في الاسم والفعل والحرف:
أحدها: دليل الاستقراء، وهو أن أئمة النحويين المستقرئين علم النحو
1 / 21
تتبعوا ألفاظ العرب، فلم يجدوا غير هذه الثلاثة.
الدليل الثاني: أن الكلمةً إما أن تدل على معناها بانفرادها، أو تدل على معناها لا بانفرادها بل بذكر متعلق، وهذا الثاني هو الحرف، والأول إما أن تتعرض ببنيتها لزمان ذلك المعنى، أو لا تتعرض، والثاني هو الاسم، والذي قبله هو الفعل، فلا رابع.
الدليل الثالث: قالوا ت المعاني ثلاثة: ذات، وحدث، ورابطة بين الذات والحدث، فالأول الاسم، والثاني الفعل، والثالث، الحرف.
وفي هذه الدلائل بحث ونظر، وأجودها الثاني.
وذكر المصنف ﵀ دليلًا رابعًا، وهو أن الكلمة إن لم تكن ركنًا للإسناد فهي حرف، وإذ كانت ركنًا فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل.
وهذا الدليل الذي ذكره راجع إلى الاستقراء، وأيضًا فهو استدلال بالعوارض لا بالذاتيات لأن الإسناد إنما يكون حالة التركب، وإذا ذكرًا دليل الحصر فإنما يكون التردد فيما يكون ذاتيًا لا فيما يكون عارضًا.
وأجمع النحويون على أن أقسام الكلمة ثلاثة: اسم بفعل وحرف. وحكي لنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير شيخنا عن صاحبه أبي جعفر بن
1 / 22
صابر، أنه كان يذهب إلى أن ثم رابعًا، وهو الذي نسميه نحن " اسم فعل"، وكان يسميه "خالفة" إذ ليس هو عنده واحدًا من الثلاثةً. حكي لنا ذلك عنه أستاذنا أبو جعفر على سبيل الاستغراب والاستندار لهذه المقالة.
وتكلم النحويون على أفراد الاسم والفعل والحرف، وعلى تسمية كل واحد منها بما سمي به، وعلى اشتقاق الاسم، وعلى تقديمه، وتوسيط الفعل، وتأخير الحرف، ولم يتعرض لذلك المصنف.
-[ص: والكلام ما تضمن من الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا بذاته.]-
ش: الكلام ينطلق على "المعاني التي تكون في النفس" التي يعبر عنها بالكلام الصناعي، وأنشدوا للأخطل - قيل؛ ولم يثبت في ديوان شعره -:
إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
وعلى "التكليم" بخلاف، أهو مصدر كلم على حذف الزوائد أم هو اسم مصدر، وهو قول الأكثرين، قال الشاعر:
فإذ تمس ابنة السهمي منا بعيدًا، ما تكلمنا كلامًا
1 / 23