التعليق على الموطأ في تفسير لغاته وغوامض إعرابه ومعانيه
تأليف
هشام بن أحمد الوقشي الأندلسي
(٤٠٨ هـ - ٤٨٩ هـ)
حققه وقدم له وعلق عليه
الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين
مكة المكرمة - جامعة أم القرى
مكتبة العبيكان
نامعلوم صفحہ
(ح) مكتبة العبيكان، ١٤٢١ هـ
فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر
الوقشي، هِشَام أَحْمد
التَّعْلِيقُ عَلَى الْمُوَطَّأ فِي تَفْسِير لغاته وغوامضِ إِعرابه ومعَانيه
تَحْقِيق عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان العثيمين - الرياض.
٤١٢ ص، ١٧ × ٢٤ سم.
ردمك:
٠ - ٧٨٧ - ٢٠ - ٩٩٦٠ (مَجْمُوعَة)
٩ - ٧٨٨ - ٢٠ - ٩٩٦٠ (ج ١)
١ - الحَدِيث - شرح.
٢ - الحَدِيث - مسانيد.
أ- العثيمين، عبد الرَّحْمَن سُلَيْمَان (مُحَقّق).
ب- العنوان
ديوي ٢٣٦.٤ ... ٣٢٥٦/ ٢١
ردمك:
٠ - ٧٨٧ - ٢٠ - ٩٩٦٠ (مَجْمُوعَة)
٩ - ٧٨٨ - ٢٠ - ٩٩٦٠ (ج ١)
رقم الْإِيدَاع: ٣٢٥٦/ ٢١
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للناشر
الناشر
مكتبة العبيكان
الرياض - الْعليا - طَرِيق الْملك فَهد مَعَ تقاطع الْعرُوبَة
ص. ب: ٦٢٨٠٧ - الرَّمْز: ١١٥٩٥
هَاتِف: ٤٦٥٤٤٢٤ - فاكس: ٤٦٥٠١٢٩
مقدمة / 2
التَّعْلِيقُ عَلَى الْمُوَطَّأ فِي تَفْسِير لغاته وغوامضِ إِعرابه ومعَانيه
مقدمة / 3
المقدمة
الحَمْدُ للهِ ربِّ العَالمِيْن، والصَّلاة والسَّلام على أَشْرَف المُرْسَلين، نَبِيِّنَا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
وَبَعْدُ: فَتَعُود صِلَتي بِكِتَاب أَبي الوَليْد الوَقَّشِيِّ (التَّعْلِيْق على المُوَطَّأ) عَلَى مَا يَزِيْد عَلَى خَمسَ عَشْرَةَ سنة خلت، حيث قَرَأْتُ في فَهَارس مكتبة الأسكوريال أنَّ ضمنَ مُقْتَنَياتِهَا نُسْخَةً مِنْهُ، فَبَادَرْتُ بِطَلَبِهَا مِن هُنَاكَ، وَذلِكَ سنة ١٤٠٥ هـ، وَأَشْفَعْتُ رِسَالتِي بِأُخْرَى حَمَلَهَا صَدِيْقنا الفَاضِل الدُّكتور عبد الله بن سُلَيْمَان الجَرْبُوع، وَكَانَ مُسَافِرًا إلى هُنَاكَ، فَتَفَضَّلَ مَشْكُوْرًا بِإِحْضَارِهَا، فَأُسَجِّلُ لَهُ هُنَا شُكْرِي وَتَقْدِيْرِي، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى كِتَابِ "مُشْكِلات المُوَطَّأ" المَنْسُوب إلى ابن السِّيْدِ البَطَلْيَوْسِيِّ (ت: ٥٢١ هـ) (مَخْطُوطًا) وبمُقارنته بالكِتَابِ المَذْكُورِ تَبَيَّنَ لِي أَنّه اخْتصارٌ لَهُ لَا يَزِيْدُ على ذلِكَ. وَمَضَتِ الأيَّامُ واللَّيَالِي وَأَنَا أُحَاول العُثُور عَلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى؛ (١) لِصُعُوبَة العَمَلِ عَلَى النُّسْخَةِ الوَاحِدَةِ، مَعَ نَقْصِهَا من أَوَّلِهَا وَاضْطِرَابِهَا، مَعَ مَا فيها من التَّحْرِيْفِ والتَّصْحِيفِ، ومع مواصلة البحث لَم أَظْفَر بِطَائِلٍ، وَعَقَدْتُ العَزْمَ عَلَى العَمَلِ بِهَا، فَقُصْتُ بِنَسْخِهَا وَمُقَابَلَتِهَا، وَحَالتْ دُوْنَ نَشْرِهَا ظُرُوف أَدَّت إلى تَأَخُّرِ ذلِكَ، حَتَّى أَذِنَ اللهُ هَذِهِ الأيَّام بالعَوْدَةِ إِلَى العَمَلِ فِيْهَا، وَوَاصَلْتُ ذلِكَ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى سُوْقِهَا، وَقد جَعَلْتُ العَمَلَ في قِسْمَيْنِ: القِسْمُ الأوَّل (المُقَدِّمَةُ)، والقِسْمُ
_________
(١) يُراجع الاستدراك والتنبيه في آخر هَذهِ المقدمة.
مقدمة / 5
الثَّانى (النَّصُّ المُحَقَّقُ)، وَتَشْتملُ المُقَدِّمَةُ عَلَى فَصلَيْن: الفَصْلُ الأوَّل (التَّعريفُ بالمُؤَلِّفِ) وَتَشْتَمِلُ على عدَّةِ مَبَاحِث، ثُمَّ الفَصْلُ الثَّاني (دِرَاسَةُ الكِتَابِ) وَتَشْتَمِلُ على عدَّةِ مَبَاحِث أيضًا. وَذَيَّلْتُ الكِتَاب بفهارس تفصيلية لأهمِّ مَا اشْتمل عليه الكتاب. وَقَدْ قَابَلَ مَعِي بَعْضَ أُصُول الطِّبَاعَة أَخِي الكَرِيْم الأسْتَاذُ الفَاضِلُ نَبِيْلُ بنُ حُسَيْن الكَوْدَرِيُّ جَزَاهُ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، وأرجو الله جَلَّت قُدْرَته أن يَحْتَسِبَ كلَّ مَا بَذَلْتُ فيه من جُهدٍ وَمَالٍ وَوَقْتِ لي عنده أجرًا أَرِدُ عليه ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩﴾. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّياتِنَا، واخْتِمْ بالصَّالِحَاتِ أَعْمَالنَا، وَاجْعَلْ عَمَلَنَا دَائِمًا لِوَجْهِكَ الكَرِيْمِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيْمُ.
وَكَتَبَ: عَبْدُ الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان العُثيمِيْن
مكة المكرمة: ١٥/ ٨ / ١٤٢٠ هـ
جامعة أمّ القُرَى- كلية اللُّغة العربيّة
مقدمة / 6
(الفصل الأول) مُؤلِّفُ الكتابِ
أبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بنُ أحْمَدَ الوَقَّشِيُّ (١) (٤٠٨ - ٤٨٩ هـ)
اسمُهُ ونسبُه:
هو هِشَامُ بنُ أَحْمَدَ بنِ هِشَامِ بنِ خَالِدِ بنِ سَعِيْد، أَبُو الوَليد (٢) الكِنَانِيُّ الوَقَّشِيُّ الطُلَيْطُلِيُّ (٣). هَكَذَا جَاءَ في مَصَادِر التَّرْجَمَةِ، لا يَزِيْدُون على ذلك
_________
(١) مِن مَصَادِرِ تَرْجَمَةِ أبي الوَليْدِ: طبقات الأمم (١١٤، ١١٥)، والأنساب للرُّشَاطِيِّ "اقتباسُ الأنْوَار ... " "مُخْتصر عبد الحق الإشبيلي (٢ / ورقة ٢٢٢) مخطوط، ومختصر الفاسي (ورقة ٩٤) مخطوط، والصِّلة لابن بشكوال (٢/ ٦٥٣، ٦٥٤)، وبغية الملتمس (٤٨٥)، ومُعجم البُلدان (٥/ ٢٣٣)، ومعجم الأدباء (٦/ ٢٧٧٨) (ط) إحسان عبَّاس، والمطرب لابن دحية (٢٢٣)، وسير أعلام النُّبلاء (١٩/ ١٣٤)، وتاريخ الإسلام (٣٢٧)، وفيات سنة (٤٨٩ هـ)، الوافي بالوفيات (٢٧/ ١٤١) (نسخة الظاهرية)، ولسان الميزان (٦/ ١٩٣، ١٩٤)، وطبقات النُّحاة واللُّغويين لابن قاضي شُهبة (مخطوط)، والرَّوض المعطار (٦١١)، وبغية الوعاة (٢/ ٣٢٧، ٣٢٨)، والاكتساب للخَيْضَرِيِّ (٣ / ورقة ٣٧٩) (مخطوط)، ونفح الطِّيب (٣/ ٣٧٦، ٣٧٧، ٤/ ١٣٧، ١٣٨، ١٦٢، ١٦٣)، وروضات الجنَّات (٤/ ٢٣٢)، وإيضاح المكنون (١/ ٥٦٩، ٢/ ١١٧)، وهدية العارفين (٣/ ٥٠٩)، وتاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان (١/ ٤٧٩)، والذَّيل عليه للمُؤلَفِ نفسِهِ (١/ ٦٦٢)، والحلل السندسيَّة (١/ ٤٦٥)، ومعجم المؤلفين (١٣/ ١٤٧)، والأعلام (٨/ ٨٤).
(٢) في هدية العارفين (٣/ ٥٠٩) بعد "سعيد": "ابن الوليد" محرفة عن أبي الوليد.
(٣) تاريخ الإسلام (٣٢٧).
مقدمة / 7
شَيْئًا. ومنهم مَنْ يَحذِفُ هِشَامًا الثَّانية (١)، ومنهم مَنْ يُقَدِّمُ خَالِدًا على هِشَامٍ (٢)، ومنهم مَنْ يَخْتَصِرُ فَيقُوْلُ: هِشَامُ بنُ أَحْمَد الوَقَّشِيُّ (٣)، أو هِشَامٌ الوَقَّشِيُّ (٤) وَكُنْيَتُهُ أبُو الوَليْدِ، لا أَعْرِفُ له كُنْيَةً غَيْرَهَا.
أمَّا نِسْبتَهُ فَيُنسَبُ أبُو الوَليْدِ ثَلاثَ نِسَبٍ هي: "الوَقَّشِيُّ" و"الكِنَانِيُّ" و"الطُلَيْطُلِيُّ" والثَّالثةُ أَقَلُّ شُهْرَةً. والأوْلَى والثَّانيةُ استفَاضَ ذكرُهُمَا في كُتُبِ الرِّجَالِ والتَّراجمِ والأدَبِ والأخبارِ، وهما مُلازِمَتَانِ لا سمِهِ وَكُنْيَتِهِ في أَغْلَبِ الأحْوَالِ.
أَمَّا "الوَقَّشِيُّ" فَنِسْبَةٌ إلى "وَقَّشَ" بَلْدَةٍ بنَوَاحِي "طُلَيْطُلَةَ" (٥) على نَهْرِ تَاجَةَ يَبْعُدُ عَنْهَا بنَحْو اثْنَي عَشَر مَيْلًا، غَرْبي "طُلَيْطُلَةَ"، و"طُلَيْطُلَةُ" هَذِه هي أَكبرُ المُدُنِ في شَرْقِ الأنْدَلُسِ على مَجْرَى النَّهرِ، وهي كُوْرَة عَظِيْمَةٌ يَتبعُهَا عَدَدٌ كَبيْرٌ من المُدُنِ والقُرَى، وكَانَتْ قَبْلَ الفَتْحِ الإسْلامِيّ هِيَ عَاصِمَةُ الفِرِنْجِ "الأسْبَان" (٦).
_________
(١) طبقاتُ الأمم (١١٤).
(٢) الصِّلة (٢/ ٦٥٣).
(٣) بُغْيَةُ المُلْتَمِسِ (٤٨٥).
(٤) نفح الطِّيب (٣/ ٣٧٦)، وفي لسان الميزان (٦/ ١٩٣)، قال: "الكِنَانِيُّ القَاضِي، أَبُو الوَليْدِ البَاجِي" وهو بلا شَكٍّ سبقُ قَلَمٍ ظاهرٍ.
(٥) يُراجع: مُعجم البُلدان (٥/ ٤٣٨)، والرَّوض المعطار (٦١٢)، قال ياقوت: "بالفتح وتشديد القاف، والشِّين مُعجمة ... " وذكرا هشامَ بنَ أحمد.
(٦) يُراجع: معجم البُلدان (٤/ ٤٥)، والرَّوض المِعْطَار (٣٩٣)، قال: "وهي مركزُ بلاد الأندلس" وقال ياقوت: " (طُلَيْطُلَةُ" هكَذَا ضَبَطَهَا الحُمَيْدِيُّ بضَمِّ الطَّاءين، وفتح اللَّامين، وأكثرُ مَا سَمِعْنَاهُ من المَغَارِبَةِ بِضَمِّ الأوْلَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ".
مقدمة / 8
وهَذ النِّسْبَة "الوَقَّشِيُّ" لم يَذكُرها السَّمْعَانِيُّ في "الأنْسَابِ" (١) ولا اسْتَدْرَكَهَا عَلَيْه ابنُ الأثِير في "اللُّبابِ" (٢) ولا السُّيُوْطِي في "لُبّ اللُّبَابِ" (٣) ولا عَبَّاس المَدَنِيُّ فِيْمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى "اللُّبِّ". وَذَكَرَهُ الرُّشاطِيُّ (٤) ﵀ وكان بها جَدِيْرًا -في أَنْسَابِهِ "اقْتِبَاسُ الأنْوَارِ ... " (مختصر عبدِ الحَقِّ) وَذَكَرَ هشامَ بنَ أحمدَ وأثْنَى عَلَيْه، وهُوَ كَذلِكَ في "مُخْتَصَر الفَاسِيِّ" (٥) لأنْسَابِ الرُّشَاطِيِّ.
وَنَسَبه "الوَشْقِيّ" لا "الوَقَّشِيّ"؟ ! سَهْوٌ مِنْهُ ﵀ والنِّسْبةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ النِّسْبَة
_________
(١) وكان ينبغي أن تكون في (١٢/ ٢٨٣).
(٢) وكان ينبغي أن تكون في (٣/ ٣٧١)، وقد استدرك عليه في هذا الحرف إلَّا أنه لم يستدرك هذه النسبة.
(٣) وكان ينبغي أن تكون في (٢/ ٣٢١).
(٤) هو عبدُ الله بنُ علي بن عَبْدِ اللهِ اللخْمِيُّ الرُّشَاطِيُّ الأنْدَلُسِي (ت ٥٤٢ هـ)، واسمُ كتابِهِ كاملًا: "اقتباسُ الأنْوَارِ والتِمَاسُ الأزْهَارِ في أَنْسَابِ الصَّحَابَةِ وَرُوَاةِ الآثَارِ" من أجودِ ما صُنِّف في بابه، مليءٌ بالفَوَائد جدًّا، وقد اهتمَّ به العُلَمَاءُ فاخْتَصَرُوه وزادوا عليه وَنَهَجُوا على منواله.
والمكان هُنَا يضيقُ عن شَرْحِ ذلك، وقد حَقَّقْتُ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ مُخْتَصَرِهِ لعبد الحق الإشبيلي، وذكرتُ في هوامشه ما جاءَ في أَصْلِهِ من نُسَخٍ بقيت من الأصْلِ لا يَنْتَظم بمجموعها عِقْدُ نُسْخَةٍ كَامِلَةِ، وَمُعظم أوراقها مُمَزقةٌ، وَمُخَرَّقَةٌ بالأرَضَةِ مِمَّا يتعذر معه إخراجها، أسأل الله أن يعينَ على إتمامه. وترجمة الوَقَّشِيِّ موجودة في الأصل والمختصر، وليس في الأصْلِ زيادةٌ على المُختصر وَلَا حَرْفًا وَاحِدًا. ترجمة الرُّشاطي في الصِّلة (١٩١)، وَمُعجم ابن الأبَّار (٢١٧) وغيرهما.
(٥) هو عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ الحُرَيْشِيُّ الفَاسِيُّ (ت ١١٤٣ هـ). يُراجع التَّعريفُ به في: "شرَّاح الموطَّأ" في مقدمة "تفسير غريب الموطَّأ" لِعَبْدِ المَلكِ بن حَبِيْبٍ التي كتبها الفقير هُنَاك. ويُراجع: مختصر الأنساب (ورقة ٩٤) يظهر أَنَّه بخَطِّهِ.
مقدمة / 9
هِيَ "الوَشْقِيُّ"، وَسَقَطَتْ النِّسْبَةُ في "أنْسَابِ البُلْبَيْسِيِّ" ﵀ بسبب خَرْمٍ أَصَابَ هَذَا الموضع. وَهُوَ يَدْخُلُ في مُخْتَصَرَاتِ كِتَاب الرُّشَاطِي. وفي كِتَابُ "الاكْتِسَابِ في الأنْسَابِ" للخَيْضَرِيِّ (١) ذَكَرَ النِّسْبَةَ وَذَكَرَ أبَا الوَليْد، وَنَقَلَ كَلام الرُّشَاطِيِّ ﵏.
وأمَّا النِّسبة الثَّانِيِةُ: "الكِنَانِيُّ" فَنِسْبَةٌ إلى القَبِيْلَةِ العَرَبِيَّة المَعْرُوْفَةِ (٢)، وَهُو يَنْتَمِي إِلَيْهَا أَصَالةً لَا وَلاءً، وَلَمْ نَجِدْ مَنْ رَفَعَ نَسَبَهُ بِالآبَاءِ والأجْدَادِ إلى أيٍّ من أَفْخَاذِ كِنَانَةَ وَبُطُونِهَا، قَال المَقَّرِيُّ في "نفح الطِّيب" (٣): "أمَّا المُنْتَسِبُون إِلَى عُمُومِ كِنَانَة فَكَثيرٌ، وجُلُّهُمْ في طُلَيْطُلةَ وَأَعْمَالِهَا، وَلَهُم يُنْسَبُ الوَقَّشِيُّونَ الكِنَانِيُّون الَّذيْنَ منهم القَاضِي أَبُو الوَليْدِ، والوَزِيْرُ أَبُو جَعْفَرٍ. ومنهم أَبُو الحُسين بنُ جُبَيْرٍ العَالِمُ صاحبُ "الرّحْلَةِ" ... " وفي تَرْجَمَةِ ابنِ جُبَيْبر قال المَقَّرِيُّ (٤): " ... وهو من وَلَدِ ضَمْرَةَ بنِ بَكْرِ بنِ عبدِ مَنَافِ بنِ كِنَانَة" وَجَدُّ ابنِ جُبَيْرٍ الدَّاخِلُ إلى الأنْدَلُسِ اسمُهُ عبدُ السَّلامِ، كَذَا رَفَعَ نَسَبَهُ إليه لِسَانُ الدِّيْنِ بنُ الخَطِيْبِ في "الإحاطة" (٥)
_________
(١) هو مُحمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله الخَيْضَرِيُّ الشَّافعيُّ (ت ٨٩٤ هـ) ومن كتابه "الاكتساب في الأنساب" نسختان منهما نسخةُ جزآه الأولُ والثَّالثُ بخطه ﵀. أخباره في: الضَّوء اللَّامع (٢/ ١١٧)، والدَّارس في تاريخ المدارس (١/ ٧)، والرسالة المستطرفة (٩٤).
يُراجع: الاكتساب (٣) ورقة (٣٧٩).
(٢) جمهرة النسب لابن الكلبي (١٣٤)، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم (١٨٠).
(٣) نفح الطيب (٢/ ٢٩١).
(٤) نفح الطيب (٢/ ٣٨١).
(٥) الإحاطة في أخبار غرناطة (٢/ ٢٣٠، ٢٣١)، وعنه في الحُلل السُّندسيّة، ونفح الطيب (٢/ ٣٨١).
مقدمة / 10
قَال: دَخَلَ جَدُّه عبدُ السَّلام بنُ جُبَيْرٍ في طالعةِ بَلْجِ بنِ بشرِ (١) بن عياضٍ القُشَيْريِّ في محرم [سَنَةَ] ثَلاثٍ وعِشْرِيْنَ وَمَائة، وَكَانَ نُزُوْلُهُ بكُوْرَةِ شَدُونَةَ، وهو من وَلَدِ ضَمُرَةَ (٢) بنِ كِنَانَةَ بنِ بَكْرِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بن إلياس بن مُضر بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَان، بَلَنْسِيُّ الأصْلِ، ثُمَّ غَرْنَاطِيُّ الاستِيْطَانِ شَرَّقَ وغَرَّبَ، وَعَادَ إلى غرْنَاطَةَ".
أقُولُ -وَعَلَى اللهِ أعْتَمِدُ-: هل الوَقَّشِيُّون من بني ضَمُرَةَ أَيْضًا، وهل هُم من وَلَد عَبْدِ السَّلام المَذْكُوْرِ؟ ! فَبَيْنَ آلِ الوَقَشِيِّ وآلِ جُبَيْرٍ مَعَ الانْتِمَاءِ إلى القَبِيْلَةِ صِلَةُ مُصَاهَرَةٍ كَمَا سَيَأْتِي في مَوْضِعه -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى-.
وَمنْ تَمَامِ الفَائِدَةِ؛ أقُولُ -وَعَلَى اللهِ أَعْتَمِدُ-: إنَّ هذِه النِّسبَةَ "الوَقَّشِيُّ" تكُوْنُ نِسْبَةً إلى قَبِيْلَةٍ، فَقَد ذَكَرَ الرُّشَاطِيُّ في "أَنْسَابِهِ" عن الزُّبِيْدِيِّ في "مختصر العَين" بَنُو وَقَّش قَبِيْلَةٌ من الأنْصَارِ (٣) قال أَبُو مُحَمَّدٍ الرُّشَاطِيُّ: هُوَ وَقَّشُ بن زُغْبَةَ بن زَعُوْرَا بن عبدِ الأشْهلِ، وَقَد رَفَعْنَا نَسَبَهم في بَابِ "الأشْهَلِيِّ"، منْهُمْ: رفاعةُ بنُ وَقشٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وسَلَمَةُ بنُ سَلامَةَ بنِ وَقَّشَ، شَهِدَ بَدْرًا، وقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَخُوْهُ: عَمْرُو قُتِلَ يَومَ أُحُدٍ، وعَبَّادُ بنُ بِشْرِ بن وَقَّشٍ، كَانَ فيمن قَتَلَ كَعْبَ بنَ الأشْرَفِ. وفي "هَمْدَانَ" وَقَّشُ بنُ قسم بن مُرهبة بنِ غَالبِ بنِ وَقَّش
_________
(١) لها ذكر في الذيل والتِّكملة (١/ ٦٥٩)، والحلة السِّيَرَاء وغيرهما.
(٢) تحرَّفت في الحلل السُّندسيَّة إلى "حمزة".
(٣) اقتباس الأنوار ومختصراته، في المواضع السَّابقة في تخريج مصادر التَّرجمة. ويُراجع: جمهرة أنساب العرب لابن حزم (٤٧١)، والاشتقاق لابن دريد (٤٤٤)، ومختصر العين (١/ ٥٨٨)، والمحكم (٦/ ٣١٩)، والتاج: (وقش).
مقدمة / 11
القاضي، يكنى أبا ذَرٍّ، روى عن أبيه ذَرٍّ، وسَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ ... ثمَّ قَال: قَال أَبُو مُحَمَّدٍ ولا أَرَى لِهَذين نِسْبَةً".
وأمَّا النِّسبةُ الثَّالِثة: "الطُّلَيْطُلِيُّ" فَهكَذَا نَسَبَهُ الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ (١)، قَال: "ويُعْرَفُ بـ "الوَقَّشِيِّ" وقوله هَذَا يدلُّ على أَنَّ "الطلَيْطُلِيَّ" غيرُ مَعْرُوْفَةٍ ولا مَشْهُوْرَةٍ، وهَذَا صحِيْحٌ، وَإِنْ نُسِبَ كذلك في "نَفْحِ الطِّيْبِ" (٢) أيْضًا.
مولِدُهُ:
اتَّفق المُؤَرِّخُون عَلَى أَنَّ أبا الوَليدِ الوَقَّشِيَّ وُلِدَ سَنَةَ (٤٠٨ هـ) ولا أَعْلَمُ خِلافًا في ذلِكَ، ولم تُفْصِح المَصَادِرُ العَرَبِيّهُ القَدِيْمَةُ الَّتِي وقفتُ عليها عن مكان مولده (٣)، فمن الخَطَأ الظَّنُّ والتَّخمينُ في شيءٍ لا يمكنُ أن يُفصحَ عنه إلَّا نَصٌّ صَرِيْحٌ مَنْقولٌ يَصحُّ أنْ يُعَوَّلَ عليه ويُستندَ إليه. وَقَد تَحَرَّفَتْ سنةُ ميلادِهِ في كتابِ "رَوْضَاتِ الجَنَّات" (٤) للخَوانْسَارِيِّ بسُقوط الصِّفرِ بينَ الرَّقمين أربعة وثمانية، فغلَّطه الأُسْتاذُ ظُهُوْرُ أَحْمَد مُحَقِّقُ "طُرَرِ الكَامِلِ" واحْتَجَّ عليه بأَنَّ العَرَبَ لم يَدْخُلُوا الأنْدَلُسَ قَبْلَ سَنَةِ (٩٢ هـ) وَجَعَلَ من الأمْرِ الهَيِّن قَضِيَّةً، والأمْرُ أَيْسَرُ من ذلِكَ، ولا يَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا إلى رَدٍّ وَدَفْع؛ لأنَّ التَّحْرِيْفَ فيه واضِحٌ، تَكْفِي الإِشَارَةُ إليه، ولو أهمَلَهُ أصلًا، ولم يعتدَّ به لكانَ أجملَ وأليَقَ.
_________
(١) تاريخ الإسلام (٣٢٧)، وفيات سنة (٤٨٩ هـ)، وسير أعلام النُّبلاء (١٩/ ١٣٤).
(٢) نفح الطيب (٤/ ٣٠٦).
(٣) ذكر الأستاذ خير الدِّين الزِّركلي في الأعلام (٨/ ٨٤) أنَّه وُلِدَ بِوَقَّشَ، ولم يذكر المصادر التي ذكرت ذلك؛ لذا لا يلزم قبوله.
(٤) روضات الجنات للخوانساري (٤/ ٢٣٢).
مقدمة / 12
وذكر صاحبُ "رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ" (١) وفاةَ أبي الوَليد وجعلها سنة (٤٧٨ هـ) وهو خَطَأٌ ظَاهِرٌ، وليس بتَحْرِيْفٍ، وَكِتَابُ "الرَّوْضَاتِ" المَذْكُورُ لا يَحْسُنُ الرُّجوعُ إليه، ولا النَّقْلُ عَنْهُ؛ لأنَّ مؤلِّفَهُ كَثيْرُ الأخْطَاءِ، كَثيْرُ التَّحْرِيْفِ، تَتَدَاخَلُ فيه المَعْلُوْمَاتِ، وَمَعَ هَذَا هُو مُتأخِّرٌ (ت ١٣١٣ هـ) فلا جديدَ في مصادِرِهِ عن المُتَقَدِّمين عَامَّة، والأندَلُسيِّن خَاصَّة.
وَوَقَعَ في كلامِ الأُستاذ ظُهُور أحمد تناقضٌ في مكان ميلاده لم يَتفَطَّنْ له فقال في أول مبحث مولده: "إِنَّ المَصَادِرَ الَّتِي وَصَلَت إِلَيْنَا والَّتي اسْتَطَعْنَا أنْ نَسْتَفيدَ مِنْهَا في تَرْجَمِةِ الوَقَّشِيِّ لا تُصَرِّحُ بالمكان الذي وُلِدَ بِه .... " وهَذَا كَلامٌ جَيِّدٌ صَحِيْحٌ إلى حدٍّ ما، لكنَّه عاد إلى نَقْضِهِ حيثُ قَال -بَعْدَ أَسْطُرٍ-: "إنَّمَا مَسْقَطَ رَأْسِهِ هِيَ مَدِيْنَةُ (وَقَّش) الَّتِي كَانَتْ دَارَ الوَقَّشِيِّيْنَ الكِنَانِيِّينَ الفُضَلاء الأعْيان، وَأَحَال إِلى "نَفْح الطِّيْبِ".
أقول -وعلَى الله أعتَمِدُ-: إِذَا كانَت المَصَادِرُ لا تُصرِّحُ بالمَكَانِ الَّذي وُلِدَ فيه فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الأُستاذُ -حفظه الله- أنَّ مدينةَ "وَقَّشَ" هي مَسْقَطُ رأسه؟ ! وكون "وَقَّش" دارَ الكنانيين الفُضَلاء الأعيان -كَمَا يَقُولُ المَقَّرِيُّ في "نَفْح الطِّيْبِ" (٢) - لا يَلْزَمُ منه أن يكونَ أبُو الوَليْدِ مولودًا فيها؟ ! وَصَاحِبُ "نفْحُ الطِّيْبِ" لَمْ يَقُلْ: إنَّها مَسْقَطُ رَأْسِهِ؟ ! .
_________
(١) المصدر نفسه.
(٢) نفح الطِّيب (٢/ ٢٩١).
مقدمة / 13
وَأَعَادَ الأسْتَاذُ ظُهُورٌ -حَفِظَهُ اللهُ- تأْكِيْدَ ذلك ثانيةً فَقَال (١): "وَكَانَ يُعرَفُ دائمًا بـ "الوَقَّشِيِّ" وكانت هَذِهِ النِّسبةُ محبوبة إليه؛ لأنَّ "وَقَّشَ" دَارُ آبائه، ومَسْقَطُ رَأْسِهِ، بها وُلِدَ ونَشَأَ وتَرَعْرَعَ ... " وهَذَا كُلُّه تزيُّدٌ منه -حفظه الله ورعاه- لم يذكر في خبرٍ مأثورٍ، ولا هو في كتابٍ مَسْطُورٍ، فَمَنْ قَال: إنَّ هَذِهِ النِّسبة محبوبةٌ إليه؟ ! وَمَنْ قَال: إن "وَقَّشَ" مَسْقَطُ رَأْسِهِ، بها وُلِدَ ونَشَأَ وتَرعْرَعَ؟ ! لا أحدَ من المُتَقَدِّمِينَ فِيْمَا أَظُن حَتَّى الآن، ولو قِيْلَ ذلِكَ فَهُوَ مُنَاقضٌ لكلامِهِ السَّابِقِ! .
أسرته:
لَيْس في المَصَادِرِ من المَعلُوماتِ ما يفيدُ كثيرًا عن أُسرتِهِ، وإن كان المُرَّاكشِيُّ يقولُ (٢) عن ابنِ أَخيه "أحمد بن عبد الرَّحمن بن أحمد": "كان من بيتِ جَلالةٍ وحَسَبٍ، شَهِيْرًا" (٣) فَلَا نَعْرِفُ شيئًا عن آبائه وَأَجْدَادِهِ، وَلَا نَعْرِفُ
_________
(١) مقدمة الطُّرر.
(٢) الذيل والتَّكملة (١/ ١٩٧).
(٣) قال الرَّصَافِيُّ البَلَنْسِيُّ في مَدْحِهِ وَمَدْحِ أَهْلِ بَيْتِهِ [ديوانه: ٥٣]:
رَجُلٌ إذا عَرَضَ الرِّجَالُ لَهُ ... كَثُرَ العَدِيْدُ وأَعْوَزَ النِّدُّ
مِنْ مَعْشَرٍ نَجَمَ العَلاءُ بِهِمْ ... زَهْرًا كَمَا يتَنَاسَقُ العِقْدُ
لَبِسُوا الوزَارَةَ مُعْلِمِيْنَ بِهَا ... وَمَعَ الصَّنَائِفِ يَحْسُنُ البُرْدُ
مُسْتَأنِفِيْنَ قَدِيْمَ مَجْدِهُمُ ... يَبني الحَفِيْدُ كَمَا بَنَى الجَدُّ
حُمِدُوا إِلَى جَدٍّ وَأَعْقَبَهُمْ ... حَمْدٌ بِأحمَدَ مَالهُ حَدُّ
وَكَأَنَّمَا فَاقَ الأنَامُ بِهِمْ ... نَسَبٌ إلَى القَمَرَيْنِ يَمْتَدُّ
فَيَرَى وَلِيْدَهُمُ المَنَامَ عَلَى ... غَيْرِ المِجَرَّةِ أنَّهُ سُهْدُ
وقال فيهم أيضًا: ديوانه (١٣١) من قصيدة مطلعها: =
مقدمة / 14
مَتَى كَانَ دُخُوْلُهُم الأنْدَلُسَ؟ أو مَنْ جَدّهم الدَّاخل إليها، ومتى كان ذلِكَ، وَكَونُهُ من بيتِ جلالةٍ وَحَسَب مَشْهُوْرًا لا يَلْزَمُ مِنْهُ أن يكونَ آباؤُهُ مِنَ العُلَمَاءِ، فَقَدْ يَكُوْنُونَ مَشَاهِيْرَ في وَقْتِهِم، من وُجُوْهِ مُجْتَمَعِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ وَأَثْرِيَائِهِمْ، وَلَا نَعْرِفُ شَيْئًا عن حَالتِهِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وهُنَاكَ إِشَارَةٌ وَرَدَتْ في "التَّكْملةِ" لابنِ الأبَّارِ (١) و"الذَّيلِ والتَّكْملةِ" (٢) للمُراكشيِّ تفيدُ أنَّ تلميذَهُ محمَّد بن جَعْفَرِ بنِ خَيْرَةَ أبا عَامِرٍ البَلَنْسِيَّ الخَطِيْبَ (ت ٥٤٦ هـ) كَانَ صِهْرًا لَهُ. وعَرَفْنَا أنَّ كُنْيَتَهُ "أبو الوَليْدِ" وَلَا أَعْتَقِدُ أنَّ لَهُ وَلَدًا بِهَذَا الاسم فهيَ من الكُنَى التي يغلبُ اسْتِعْمَالُهَا فيمن اسمُهُ "هِشام" وإن كان ذلِكَ مُمْكِنًا. والَّذِي يَظْهرُ أنَّ والدَهُ لم
_________
= لِمَحَلكَ التَّرْفيع والتَّعْظِيْمُ ... وَلِوَجْهِكَ التَّقدِيْسُ والتكْرِيْمُ
وفيها:
يَا مُفْضِلًا سَدِكَ السَّخاءُ بِمَالِهِ ... حَتَامَ تَبْذُلُ وَالزَّمانُ لَئِيْمُ
تَتَلَوَّنُ الدُّنْيَا وَرَأْيكَ في العُلا ... وَالحَمْدُ دَأْبُكَ والكَرِيْمُ كَرِيْمُ
وَمِنَ المُتَمِّمِ في الزَّمَانِ صَنِيْعَةً ... إلَّا كَرِيْمٌ شَأنُهُ التّتمِيْمُ
مِثلُ الوَزِيْرُ الوَقَّشِي وَمِثْلُهُ ... دُوْنَ امْتِرَاءٍ فِي الوَرَى مَعْدُومُ
وفيها:
مِنْ مَعْشَر وَالاهُمُ فِي سِلْكِهِ ... نَسَبٌ صَرِيْحٌ في العَلاءِ صَمِيْمُ
قَوْمٌ عَلَى كَنَفِ الزَّمَانِ لَبُوْسُهُم ... ثَوْبٌ بِحُسْن فَعَالِهِمْ مَوْسُوْمُ
آثَارُهُمْ فِي الحَادِيَيْنَ حَدِيْثةٌ ... وَفِخَارُهُمْ في الأقْدَمِيْنَ قَدِيْمُ
مَاتُوا وَلكِن لَمْ يَمُتْ بِكَ فَخْرُهُم ... فالمَجْدُ حَيٌّ والعِظَام رَمِيْمُ
(١) التكملة (١/ ٤٧٨).
(٢) الذيل والتكملة (٦/ ١٥٢).
مقدمة / 15
يكن من أهل العِلْمِ، أو على الأقلِّ لم يكن من المشاهير فيه؛ لذلك لم أجد أحدًا من العُلَمَاءِ الَّذِين ذكروا سيرة حياته يذكرُ أنَّه قَرَأَ عَلَى أَبِيْهِ أوْ رَوَى عَنْهُ، ولَم يَرِدْ لأبِيْه أيُّ إشارةٍ في كُتُبِ التَّراجِمِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا. وَعَرِفْنَا أنَّ لأبِي الوَليْدِ أخًا اسْمُهُ "عَبدُ الرَّحْمَن بن أَحْمَد" من خِلالِ تَرْجَمَة ابنه أَحْمَد بن عَبْد الرَّحْمَن بن أحمد.
- وابنُ أخيه أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحمن بن أَحْمَد الوَقَّشِيُّ (١) له من الشُّهْرَةِ والتَّمَيُّزِ والمَكَانَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ في زَمَنِهِ مثلُ مَا لِعَمِّهِ بل أَزْيَدُ، فهو الشَّاعرُ، الكَاتبُ، الوَزِيْرُ "أَحَدُ الكُفَاةِ الأمْجَادِ وَالدُّهَاةِ الأَنْجَادِ" كَمَا قَال ابنُ الأبَّارِ (٢) ﵀ وقال: "وللوَقَّشِيِّ تَحْقِيْقٌ بالإحْسَان، وتَصَرُّفٌ في أَفَانِيْن البَيَانِ، وكتابي المُؤَلَّفُ في أُدَبَاءِ الشَّرقِ [الأندلُسيِّ] المُتَرجَمُ بـ "إِيْمَاضِ البَرْقِ" مُشْتَمِلٌ على كَثيْرٍ من شِعْرِه، وَمَدَحَهُ أَبُو عَبْدِ الله الرَّصَافِيُّ (٣) بِمَا ثَبَتَ في دِيْوَانِهِ، وَأَعْرَبَ عن
_________
(١) أخباره في الذَّيل والتَّكملة (١/ ١٩٧)، والحُلَّةُ السِّيَرَاء (٢/ ٢٥٧)، ونفح الطيب (٥/ ٢٧١).
(٢) الحُلَّةُ السِّيَرَاء (٢/ ٢٥٧).
(٣) هو مُحَمَّدُ بنُ غَالبٍ الرَّصَافِيُّ، من رَصَافَةِ بَلَنْسِيَة، أقام مُدة بغرنَاطة، وَسَكَنَ مَالقَةَ، وبها تُوفي سنة (٥٧٢ هـ). أخباره في المُعجب (٢١٧)، والتكملة (٣٢٧)، والإحاطة في أخبار غرناطة (٢/ ٥٠٥)، وغيرها. جَمَعَ شعره الدُّكتور إحسان عبَّاس، ونشره في دار الثقافة ببيروت سنة (١٩٦٠ م)، وفي الإحاطة أشعارٌ لم ترد في ديوانه في طبعته تلك، أورد في الدِّيوان قصيدة له ص (٦٨) ثمانية عشر بيتًا هي في الإحاطة ٤٧ بيتًا، وأورد ثمانية أبيات من قصيدته في رثاء أبي مُحمَّدٍ الجذامي المالقي، وهي في الإحاطة ٤٩ بيتًا، وأورد بيتًا واحدًا على حرف القاف، وفي الإحاطة تسعة أبيات، وفي الديوان: قال في غُلامِ حائك ثمانية أبيات هي في الإحاطة عشرة أبيات، وبيتان في الإحاطة هما من المقطوعة رقم (٢) في =
مقدمة / 16
جلالة شأنه، وبالجُمْلَةِ فهو وأبو جَعْفَرَ بنُ عَطِيّة من مَفَاخِرِ الأنْدَلُسِ، وكانا مُتَعَاصِرَيْنِ، وفي الكَفَاءَةِ مُتكافِأَيْنِ، ولذلِكَ مِنَ النَّثر مَزِيَّةُ هَذَا في الشَّعرِ".
وَقَال ابنُ عبد المَلِكِ المُرَاكِشِيُّ (١): "كَانَ من بَيْتِ جَلالةٍ وحَسَبٍ، شهيرًا، سَرِيَّ الهِمَّةِ، أديبًا، بارعًا، فاضلًا، شَاعِرًا مَطْبُوعًا، كَاتِبًا بَلِيْغًا". وَكَانَ وَزِيْرًا لأبي إِسْحَاق إبراهيمَ بن همشك (ت ٥٧٢ هـ) (٢) صاحبُ جَيَّان. أَوْفَدَهُ ابنُ همشك المَذْكُور يَستصرخُ الخليفةَ يعقوبَ بنَ عبدِ المُؤمِنِ صاحبَ المغربِ، فوفدَ إلى مُراكش سنة (٥٦٢ هـ) وسنة (٥٦٤ هـ)، وَقَال قَصِيْدَةً عَظِيْمَةً يَمْدَحُ بها الأميرَ أبا يعقوب بنَ عبدِ المُؤمن المذكورَ، وهي قصيدةٌ فَرِيْدَة أطال فيها، وتعرَّضَ لذكرِ الأنْدَلُسِ، وَوَصفَ حَالهَا، وَذلِكَ في رَمَضَان سَنَةَ أربعٍ وستِّين وخَمْسِمَائَةَ مِنْهَا (٣):
أَبَتْ غَيْرَ مَاءٍ بالنُّخِيْلِ وُرُوْدًا ... وَهَامَتْ بِهِ عَذْبَ الجِمَامِ مَرُوْدَا
_________
= الديوان لم يردا في الدِّيوان، وأربعةُ أبيات على حرف الحاء لم ترد في الدِّيوان وثلاثة أخرى على حرفِ الحاء أيضًا لم ثرد، وثلاثة أبيات على حرف الشين لم ترد فيه أيضًا.
وطبعة الدِّيوان التي وقفت عليها قَدِيْمَةٌ كَمَا تَرَى فهل استدركها المُحَقِّقُ في طبعة اُخرى؟ ! وفي الدِّيوان (٥٣، ١٣١) قصيدتان في مَدْحِ الوَزِيْرِ الوَقَّشِيِّ تقدَّم ذكرهما والنَّقْلِ منهما، ولعل له قَصَائِدَ أُخْرَى في مدحه تظهر إن ظهر ديوانه.
(١) الذَّيل والتكملة (١/ ١٩٧).
(٢) أخباره في: المعجب (١٥٠)، والمغرب (٢/ ٥٢)، والبيان المغرب (٣/ ٤٩)، والإحاطة (١/ ٣٠٥)، وأعمال الأعلام (٢٦٣).
(٣) الذَّيل والتَّكملة (١/ ١٩٨).
مقدمة / 17
وَقَالتْ لِحَادِيْهَا أثمَّ زِيَارَةٌ ... عَلَى العَشْرِ مِنْ ورْدِيْ لَهَا فَأزِيْدَا
عَدِمْتُك مَا هَذَا القُنُوع وَهَاأَنَا ... عَهِدْتُكِ لا تَثْنِيْنَ عَنْهُ وَرِيْدَا
أنُوْنًا إِذَا مَا كُنْتِ مِنْهُ قَرِيْبَةً ... وَضِبًّا إِذَا مَا كَانَ عَنْكِ بَعِيْدَا
رِدِي حَضْرَةَ المَلْكِ الظَّلِيْلِ رَوَاقُهُ ... فَفِيهَا لَعَمْرِيْ تَحْمَدِيْنَ وُرُوْدَا
بِحَيْثُ إمَامُ الدِّيْنِ يُوْسِعُ فَضْلَهُ ... جَمِيع البَرَايَا مُبْدِيًا ومُعِيْدَا
أَعَادَ إِلَيْنَا الأُنْسَ بَعْدَ شُرُوْدِهِ ... وَأَحْيَا لَنَا مَا كَانَ مِنْهُ أُبِيْدَا
وَلَيَّنَ أَيَّامَ الزمَانِ بِعَدْلِهِ ... وَكَانَتْ حَدِيْدًا في الخُطُوْبِ حَدِيْدَا
فَلَا لَيْلَةً إلا تَرُوْقُكَ سَحْرَةً ... وَلَا لَيْلَ إِلَّا عَادَ يَفْضُلُ عِيْدَا
ومِنْهَا: يَصِفُ الأنْدَلُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الجِهَادِ:
أَلا ليْتَ شِعْرِي هَلْ يُمَدُّلِيَ المَدَى ... فَأُبْصِرُ حَفْلَ المُشْرِكِيْنَ طَرِيْدَا
وَهَلْ بَعْدُ يُقْضَى في النَّصَارَى بِنُصْرَةٍ ... تُغَادِرُهُم للمُرْهَفَاتِ حَصِيْدَا
ويَغْزُو أَبُو يَعْقُوْب في "شنت ياقبٍ" ... يُعِيْدُ عَمِيْدَ الكَافِرِيْنَ عَمِيْدَا
وَيُلْقِي عَلَى أَفْرَنْجِهِمْ عِبْءَ كَلْكَلٍ ... فَيَتْرُكُهُمْ فَوْقَ الصَّعِيْدِ هُجُوْدَا
يُغَادِرُهُمْ قَتْلَى وَجَرْحَى مُبَرّحًا ... رُكُوْعًا عَلَى وَجْهِ الفَلا وسُجُوْدَا
وَيَفْتكَّ مِنْ أَيْدِي الطُغَاةِ نَوَاعِمًا ... تَبَدَّلْنَ مِنْ نَظْمِ الحُجُوْلِ قُيُوْدَا
... إلى آخرها، وهي جيِّدةٌ.
وتوفي أبو جَعْفَرٍ بمَالقَةَ يومَ الثُّلاثاء عَقِبَ مُحَرَّم سَنَةَ أربعٍ وسبعين وخَمْسِمَائة، وكان الحَفْلُ في جَنَارتهِ عَظِيمًا، شَهِدَهَا الخَاصُّ والعَامُّ، وحَضَرَها والصَّلاةَ عليه وَالِي مَالقَةَ حِيْنَئذٍ الأمِيْرُ أبُو مُحَمَّدِ بنِ الأميرِ أبي حَفْصِ
مقدمة / 18
ابنِ أبي مُحَمَّدِ عبد المُؤمن بن عليٍّ، ودُفِنَ بمَقْبَرَةِ بابِ قَشْتَالةَ خارجَ بابِ الكُحْلِ بسفحِ جَبَلِ فاره، قَال ابنُهُ أبُو الحُسَيْنِ: لَمَّا وَصَلَ مَالقَةَ يُريدُ حَضْرَةِ مْرَّاكِشَ خَرَجَ مُتفَردًا فَوَقَفَ بمَوْضع قَبْرِهِ، وَقَال: هَذَا مَوضعٌ مَا أظنُّ ببلاد الأنْدَلُس آنقَ منه، وَوَدَدْتُ لَوْ دُفِنْتُ بِهِ، فَلَمَّا قَفَلَ مِنْ حَضْرَةِ مُرَّاكش لم يَلْبَثْ بِهَا إلَّا يَوْمَيْنِ، وتُوفِيَ هُو وابنُهُ يُوسُفَ، ودُفِنَا بِذلِكَ المَوْضِعِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الخَطِيْبُ أبو كَامِلٍ.
- وَزَوْجَته: بنتُ ابنِ همشك المَذْكُور، طَلَّقَها وَنَدِمَ على ذلِكَ. ولا أَدْرِي هل هِيَ أمُّ أَوْلادِهِ الآتِي ذِكْرُهُم؟ ! . يُراجع: الحُلة السّيَرَاء (٢/ ٢٦٠).
ولأبي جَعْفَرٍ هَذَا مِنَ الوَلَدِ:
- يُوْسفُ بنُ أحْمَدَ، هَذَا الَّذي مَاتَ مَعَهُ، ولا أَعْرِفُ مِنْ أَخْبارِهِ شَيْئًا.
- وَعَاتِكَةُ بِنْتُ أحْمَدَ، أمُّ المَجْدِ (١)، زَوْجَةُ أَبي الحُسَيْنِ بنِ جُبَيْرٍ صَاحِبِ "الرِّحْلَةِ" الأدِيْبِ المَشْهُوْرِ، وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ أَبِيْهَا بسَبْتةَ سَنَةَ (٦٠١ هـ) وَدَفَنَهَا هُنَاكَ، وَقَال فِيهَا (٢):
بسَبْتةَ لي سَكَنٌ في الثَّرَى ... وَخِلٌّ كَرِيْمٌ إليها أَتَى
فَلَوْ أَسْتَطِيع رَكِبْتُ الهَوَاءَ ... فَزُرْتُ بِهَا الحَيَّ والمَيِّتَا
_________
(١) الذيل والتكملة (٥/ ٦٠٦)، والبيتان في نفح الطيب (٢/ ٤٨٩)، ولابن جُبَيْرِ أخبار في التكملة (٨/ ٥٩٨)، والذَّيل والتَّكملة (٥/ ٥٩٥)، ومعجم الأدباء (٢/ ١٠٦)، والإحاطة (٢/ ٢٣٠).
(٢) نفح الطِّيب (٢/ ٤٨٩)، والبيتان في التَّكملة (٢/ ٩٢٤).
مقدمة / 19
- وأبُو الحُسَيْن علي بنُ أحْمَدَ بن عَبْدِ الرَّحْمَن (١)، كَانَ شَاعِرًا، أَدِيْبًا، عالمًا، رَوَى عَنْهُ سَالِمُ بنُ صَالح الهَمْدَانِي المَالقِي، وَذَكَرَهُ في شُيُوخِهِ، وأبو عَمْرِو بنُ سَالِمٍ، وكان من لِدَاتِ المُؤَرِّخ الرَّحَّالةِ ابن سَعِيْدٍ، كَانَا يَحْضُرَان في صِبَاهُمَا معًا في مَرْجِ الخَزِّ ويَقْرِضَانِ الشِّعْرَ ... وَكَانَ ابنُ سَعِيْدٍ يَختلفُ إلى بيتِ أبي الحُسَيْنِ ويَرْتَاحُ إلى لِقَائِهِ ارتيَاحَ العَلِيْلِ إلى شِفَائِهِ. وَكَانَ أبُو الحُسَيْن آيةً في الظُّرْفِ وخِفَّة الرُّوْحِ، كَثيْرَ المَرَحِ والدُّعَابَةِ، مُغَنِيًّا مَاهِرًا، شَجِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ شَيْخُهُ في المُوْسِيْقَى أبُو الحُسَيْنِ بنِ الحَسَنِ الحَاسِبِ، شَيْخُ هَذِه الطَّرِيْقَةِ ومن شِعْرِهِ:
حَنَنْتُ إِلَى صَوْتِ النَّوَاعِيْرِ سَحْرَةً ... وَأَضْحَى فُؤَادِي لَا يَقِرُّ وَلَا يَهْدَى
- ومَرْوَانُ بنُ أبي جَعْفَرٍ احْمَدَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَحْمَد الكِنَانِيُّ الوَقَّشِيُّ. من أهل جَنَّان وَعِلْيَةِ وُزَرَائِهَا، وَنبهَاءِ أُدبائِهَا، رَوَى عن أبي عَبْدِ اللهِ بنِ حُمَيْدٍ كَثيرًا، كَذَا قَال أبُو جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ الغَرْنَاطِيُّ (٢)، وَقَال أَيْضًا: وَلَمْ أَعْثُر له على سواه، وكان كاتبًا، أديبًا، مَعْنِيًّا بالرِّوَايَةِ والأدَبِ على سَنَنِ أَبِيْه، وَقَدْ تقدَّمُ ذِكْرُهُ وتوفي بمَالقَةَ في الفِتْنَةِ، ودُفِنَ بإِزَاءِ أَبِيْه بجَبَلِ فَاره أول الفِتْنَةِ رَحِمَهُمُ اللهم".
هَؤُلاءِ هم الَّذِين عرفتهم من أُسْرةِ أبي الوَليْدِ هِشَامٍ ﵀، وَرُبَّمَا كَانَ هُنَاكَ آخَرُون لم أَعْثُر عليهم، فَلَعَلَّ البَحْثَ والمُتَابَعَةَ في المُسْتَقْبَلِ أنْ يَكْشِفَا لنَا جَانِبًا مُشْرِقًا مِنْ حَيَاتِهِ، وَحَيَاةِ أُسْرَتهِ.
_________
(١) أخباره في الذيل والتكملة (٥/ ١٦٤)، مقضبة جدًّا، ونفح الطيب (٤/ ١٣٨).
(٢) صلة الصلة (٣/ ٦٠).
مقدمة / 20
وَذَكَرَ الأُستَاذُ أبُو جَعْفَرِ بنِ الزُّبِيْرِ الغَرْنَاطِيُّ (١): أَبُو الوَليْد يُونُس بن مُحَمَّد الوَقَّشِيِّ وأنَّهُ أَخَذَ عَن يُوْسُف بن عَلِي الأنْصَارِيّ (ت ٥٢٦ هـ)، وَلَا أَدْرِي مَا صلته بَآلِ الوَقَّشِيِّ هَؤلاء، وَقَدْ لَا تكُوْن لَهُ صِلَةٌ بِهم إلَّا النسبة إلى المكان، لكن الشَّيْء بِالشِّيْء يذكر.
تعلُّمه وأشهر شُيوخه:
طَلَبَ الوَقَّشِيُّ العلمَ كغَيْرِهِ من أبناءِ زَمَانِهِ في الكتَّابِ، ثمَّ انْتَقَلَ إلى مَجَالِس أهلِ العِلْمِ من الشُّيُوخ المُتَصَدِّرِين، وَهَذَا مَعْلُوْمٌ وَيُدْرَكُ بحقِّ كُلِّ طَالب علمٍ نُقِلَ إلينا أَو لَمْ يُنْقَلْ، إلَّا أنَّ بعضَ العُلَمَاءِ يَنْشَأُ في بيئةٍ علميّةٍ فيُذْكَرُ في أخبارِهِ وَتَرْجَمَتِهِ ذلك مُفَصَّلًا، لاعتِنَاءِ أهلِهِ بتَعْلُّمِهِ أَثْناء الطَلَبِ، أَو يَطْلُبُ العلمَ على الكِبَرِ، وَهَذَا قَلِيْلٌ. وَأقْدَمُ مَنْ عَرَفْنَا مِنْ شُيُوخِهِ وَفَاةً الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنكيُّ (ت ٤٢٩ هـ) وعُمْرُ الوَقَّشِيِّ إذْ ذَاكَ إِحْدَى وَعِشْرُوْن سَنَةً، وأبُو عُمَرَ منْ كِبَارِ شُيُوخِ أَهْلِ الأنْدَلُسِ، وَنَقَلَ يَاقُوْتُ الحَمَويُّ عن القَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ رِوَايَةَ الوَقَّشِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ إِجَازَةً، فَهَلْ رَآهُ وَسَمِعَ منه وَأَجَازَهُ أيْضًا؟ أو هُوَ شَيْخُةُ بالإجَازَة دُوْنَ سِوَاهَا؟ ويُعَدُّ أبُو عُمَرَ في مُقَدَّمَةِ شُيُوْخِ أبي الوَليْدِ فَهُوَ في مَشَاهِيْرِهِم.
ولم يَكُنْ أبُو الوَليْدِ مُكِثرًا من الشُّيُوخِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ رِحْلَةً خَارجَ الأنْدَلُسِ لَا للحَجِّ ولا لِطَلَبِ الحَدِيْثِ، يَلْقَى فيها الشُّيُوخَ، ويَرْوي الكُتُبَ، ويَصِلُ الأسَانِيْدَ، مَعَ عِنَايَتِهِ بالرِّوَايَةِ، وَتَعَدُّدِ الفُنُوْنِ الَّتي يُجِيْدُهَا. وَلَمْ أَجِدْ من المَعْلُوْمَاتِ ما يُفِيْدُ كثرةَ شُيُوحهِ، ومن أَبْرَزِ شُيُوخِهِ الَّذِيْنَ ذُكِرُوا في المَصَادِرِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا:
_________
(١) المصدر نفسه (٣٠٤).
مقدمة / 21