على أنه لو كانت هذه هي المهمة الحقيقية للموسيقى، لما جاز لنا أن نتحدث عن أي معنى لهذا الفن؛ ذلك لأن مجال المعاني أعلى من مجال الانفعالات السلبية التي لا تتيقظ فيها الملكات الواعية إلا في أدنى صورها. فهل تخلو الموسيقى بحق من أي معني؟ لا شك أن مثل هذا الخطأ في فهم وظيفتها لا يرجع إلا إلى التعود على أنماط معينة من الموسيقى، هي التي تبعث في الإنسان اعتقادا بأن مهمتها أن تطربنا سلبيا فحسب. ولو اتسعت تجربة المرء الموسيقية، واستوعبت الأنماط الرفيعة منها، لأدرك أن للموسيقى معنى بالفعل، معنى إيجابيا تماما، لا تكتفي فيه بأن تهز أعصاب المرء أو تثير الانفعال فيه، وإنما تضيف إلى ذلك إيقاظ العقل - عن طريق الحواس - وتنبيه الملكات الواعية، وكشف حقائق جديدة كانت النفس تجهلها من قبل. والحق أن هذه هي المهمة السامية للفن؛ ألا يكتفي بالتأثير السلبي فينا، بل أن يقدم إلينا شيئا إيجابيا، ويكسبنا مزيدا من المعرفة بالحياة التي نعيش فيها، كل فن بطريقته الخاصة، التي تختلف بالطبع عن طريقة التعلم أو التلقين العقلي المباشر. وبهذا المعنى وحده ينبغي أن نفهم الموسيقى.
ومهمتنا الآن هي أن نبحث في هذه الطريقة الخاصة التي تتميز بها الموسيقى في التعبير عن معانيها. وإذا كنا قد بحثنا من قبل في عناصر اللغة الموسيقية بحثا تحليليا، فعلينا الآن أن نبحث في الطريقة التي تصل بها الموسيقى في صورتها النهائية إلى أذهاننا، والتأثير الخاص الذي تتميز به في نقل معانيها.
ولقد اعتاد كثير من الناس أن يفهموا الموسيقى فهما شاعريا؛ بمعنى أنهم يبحثون عن معان أدبية أو صور حسية في كل لحن يستمعون إليه. ويبرر بعض المفكرين النظريين هذه الظاهرة بتقسيمهم الموسيقى إلى نوعين؛ نوع خالص أو مجرد، ونوع ذي موضوع أو برنامج؛ فالنوع الأول لا يثير في الأذهان صورا على الإطلاق، وإنما هو نماذج صوتية جميلة، ينبغي أن تسمع لذاتها فحسب، ومن أمثلته في موسيقى بيتهوفن الرباعيات
Quartets . أما النوع الثاني فيقصد به تصوير موضوع معين، وتصور هذا الموضوع خلال السماع يزيد من فهمنا للموسيقى، ومن أمثلته لدى بيتهوفن أيضا: السيمفونية السادسة (الريفية). وهكذا يجد أصحاب هذا التقسيم عذرا لأولئك الذين يحشدون كل ما يستمعون إليه بالتخيلات اللفظية أو التصويرية، بل إن البعض يرسم للموسيقى الخالصة ذاتها صورا معينة، هي بدورها صور هندسية مجردة، كالخطوط المتعاقبة التي صور بها وولت ديزني مقطوعة باخ «توكاتا وفيوج» في فيلمه الموسيقي «فانتازيا».
على أن هذا التقسيم الثنائي للموسيقى لا يحل أي إشكال؛ فستظل هناك مؤلفات موسيقية عديدة لا ندري تحت أي النوعين تندرج. ولنأخذ مثلا - في موسيقى بيتهوفن أيضا - السيمفونية التاسعة. فهل هي موسيقى مجردة؟ من المحال أن نقول: إن هذه الموسيقى نماذج صوتية جميلة فحسب، وأنها لا تحمل إلينا أحاسيس أو معاني أو أفكارا. ولكن هل هي إذن موسيقى ذات موضوع أو برنامج محدد؟ الحق أننا لو حاولنا أن نحدد هذا الموضوع أو البرنامج، لما أمكننا أن نرسم له خطوطا واضحة على الإطلاق، ولوجدنا أن من الممكن استبدال كثير من التشبيهات أو الأفكار بتشبيهات وأفكار أخرى لا تقل عنها انطباقا على الموسيقى.
بيتهوفن.
والذي يمكننا أن نؤكده هو أن الفارق بين الموسيقى المجردة والموسيقى ذات الموضوع فارق في الدرجة فحسب؛ ففي وسعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنى معين، موسيقى ذات موضوع؛ إذ إنها - من حيث هي إنتاج فني صادق، مرتبط بحياة مؤلفه وبمجتمعه ارتباطا وثيقا - لا بد أن تعبر عن معان نستطيع نحن أن نهتدي إليها. غير أن هذه المعاني، في الجزء الأكبر من الإنتاج الموسيقي المألوف، لا يمكن أن تكون جزئية محددة، نستطيع الإشارة إليها أو الاتفاق عليها بالإجماع، بل إن الموسيقى، كما قلنا من قبل، تتجاوز نطاق الجزئيات إلى الكليات؛ ولذا كان في وسعنا أن نقول: إن كل موسيقى هي، بمعنى آخر، موسيقى مجردة ، ما دامت تعلو على التفسيرات الجزئية المخصصة. فهاتان الصفتان - أعني كون الموسيقى ذات موضوع، أو كونها مجردة - ليستا أساسا لتصنيف المؤلفات الموسيقية، وإنما هما بالأحرى وجهان متباينان للتعبير الموسيقى ذاته. وهذا لا يمنع على الإطلاق من وجود مؤلفات معينة تقف في هذا الطرف أو ذاك؛ فالرباعيات في الطرف الذي تبلغ فيه المعاني أعم درجة ممكنة، والسيمفونية الريفية تقف في الطرف الآخر، الذي يحدد فيه مؤلفه النطاق الذي ينبغي أن تفهم مقطوعته من خلاله. وعلى أية حال فهذا النوع من الموسيقى ذات الموضوع الصريح قليل، وأغلب المؤلفات تجمع بين صفة وجود الموضوع، في صورة معان عامة، وصفة التجريد، التي ترجع إلى عمومية هذه المعاني ذاتها.
ولقد أجريت تجارب طريفة لمعرفة الأنماط المختلفة من المستمعين في فهمهم للموسيقى، نشرها ماكس شون
Max Schoen
في كتاب «تأثيرات الموسيقى
نامعلوم صفحہ