طعام فی عالم قدیم
الطعام في العالم القديم
اصناف
تعتبر القضايا البيئية من الموضوعات البارزة في كتابات جالينوس، وفي الكثير من الكتابات الطبية الأخرى التي تتبنى فكر أبقراط. وإلى جانب هذه القضايا، يقدم جالينوس أيضا الكثير من الشروح والتعليقات الجغرافية؛ فهو يذكر - على سبيل المثال - القمح الثنائي الحبة من ميسيا، والجاودار من مقدونيا، والعنب من قيليقية، والتونة من ساردينيا. وهذا الأسلوب يساعد في الربط الدقيق بين الأطعمة وأماكن وجودها، وربما يكون من مساوئ هذا الأسلوب تعذر التعميم؛ فدخن ذيل الثعلب في آسيا غير مطابق لدخن ذيل الثعلب الذي يزرع في إيطاليا، ولكن له مزايا بلاغية هائلة. وثمة أمثلة محددة تمنحنا الثقة في مصداقيتها، خاصة إذا توافرت إمكانية تطبيق المبادئ المقدمة على نطاق أوسع. وهذا النسق البحثي الذي يراعي اتساع رقعة الإمبراطورية الرومانية من شأنه أيضا أن يفرغ على جالينوس مصداقية أكبر بوصفه مصدرا موثوقا به، لا سيما حين تكون الأسباب التي تستند إليها تلك المبادئ مستقاة من خلال فحصه لعدد من النباتات بنفسه، وكذلك من قراءته الواسعة للمؤلفين المتخصصين.
إن النقد الاجتماعي الذي يقدمه جالينوس مبهر مثل كتاباته عن الشئون البيئية والجغرافية في بحث «عن قوى الأطعمة». رأينا فيما سبق حديثه عن الريفيين في آسيا ممن يضطرهم الجوع لأكل الشوفان والدخن، وهما من الحبوب التي ينظر إليها في الظروف العادية باعتبارها لا تصلح إلا كطعام للحيوانات؛ وقد تحدثت في مواضع أخرى عن هذا الموضوع في ويلكنز (2001، ويلكنز في باول 2003). وكان جالينوس مهتما بالريفيين لأنهم كانوا يتناولون في نظامهم الغذائي أطعمة لم يكن الأغنياء يأكلونها إلا في حال وصفها لهم كعقار؛ ومن أمثلة تلك الأطعمة نبات البيقة المر («عن قوى الأطعمة» 1، 29):
تأكل الماشية نبات البيقة المر في منطقتنا وفي مناطق كثيرة أخرى، وهو يحلى بوضعه في الماء أولا. أما البشر فيتجنبون هذه البذور تماما؛ لأن طعمها كريه وتحتوي على عصارات ضارة. ولكن، أحيانا ما يلجئون إليها في أوقات المجاعة بدافع الحاجة الماسة، كما ذكر أبقراط. ونحن أنفسنا نستعمل نبات البيقة المر مع العسل كعقار للتخلص من السوائل الغليظة في الصدر والرئتين، ونحضره أولا بنفس طريقة تحضير الترمس. (ترجمه إلى الإنجليزية: جرانت 2000 وباول 2003)
وفي مواضع أخرى، نجد جالينوس مهتما برسم حدود النظام الغذائي للإنسان. ومن الممكن أن نضيف عادات شعوب أخرى إلى الأدلة المستقاة من الريفيين الشديدي الجوع؛ فالمصريون الذين يأكلون يرقات الخشب لا يشبهون الإغريق في عادات تناول الطعام أو القراءة (3، 2). لا يتصور جالينوس أن المصريين سيقرءون بحثه، ولا يمكنه أن يتخيل الإغريق وهم يأكلون الحشرات والثعابين مثل المصريين. ومن يأكلون الأسود والحمير والدببة هم أقرب لتلك الحيوانات منهم إلى البشر.
وناقشت فيما سبق اهتمام جالينوس بالاحتياجات الغذائية للعمال المشتغلين بأعمال يدوية، وقد اكتشف أن الحصادين وحافري المصارف الذين يحضرون الاحتفالات الريفية كانوا يتمتعون ببنية قوية تتيح لهم أكل أطعمة قوية مكونة من الجبن المخبوز مع الخبز، بيد أنهم كانوا يموتون في سن الشباب. وكان بوسع الرياضيين أيضا تناول كمية من الخبز واللحم تزيد عما يستطيع تناوله أي فرد من الطبقة الراقية. وكانت للجنود أيضا احتياجات خاصة. يذكر جالينوس في بحث «عن قوى الأطعمة» (1، 11):
في بعض البلدان يستخدمون جريش الشعير لصنع الخبز، كما رأيت في الريف في قبرص، ومع ذلك فهم يزرعون القمح في معظم الأحيان. وكان القدماء يعدون جريش الشعير أيضا للمجندين في الخدمة العسكرية، ولكن حاليا لا يستخدم الجيش الروماني جريش الشعير، بعد أن شاع رأي متحامل بأنه يؤدي إلى إضعاف الجنود؛ وذلك لأنه يمد الجسم بكمية قليلة من العناصر المغذية التي تكفي للفرد العادي الذي لا يؤدي تدريبات بدنية. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
إن بحث «عن قوى الأطعمة» هو بحث معني في الأساس بأساليب التدخل المعتدل، وعندما كان الأمر يستدعي أساليب طبية أقوى، كان الطبيب يلجأ إلى استخدام العقاقير، أو «فارماكا» باللاتينية. ألف جالينوس عددا من البحوث المؤثرة عما أطلق عليه الأدوية البسيطة (النباتات وحدها أو المنتجات الحيوانية أو المعادن) وعن الأدوية المركبة أو أمزجة من عدة مكونات واردة في الوصفات الطبية. وكما رأينا في موضع سابق من هذا الفصل، يصنف بعض النباتات بصفته أطعمة وعقاقير في آن واحد؛ ومن أمثلة ذلك نبات العرعر (وردت مناقشة عنه في كتاب «الأدوية البسيطة» 6 = 11، 836-837)، وشجرة الأرز (كتاب «الأدوية البسيطة» 7 = 12، 16-17).
شكل 8-3: يناقش ديسقوريدوس صنفين من القمح البدائي، ربما القمح الثنائي الحبة والقمح الوحيد الحبة. وحاول علماء النبات والأطباء تسجيل كل النباتات الموجودة في الإمبراطورية الرومانية، فوجدوا قدرا كبيرا من الخلط يشوب السجلات المكتوبة، ولاحظوا استخدام مصطلحات لم تكن تمت بصلة للنباتات المزروعة. واهتم ديسقوريدوس وجالينوس كثيرا بفكرة أن يفحص الباحث النباتات بنفسه في مواسم مختلفة وفي أماكن مختلفة بهدف مطابقة التصنيف النباتي للتصنيف المعجمي، وهذا ما فعله كلاهما. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر.)
ألف جالينوس هذه البحوث بهدف مناقشة عدد من المشاكل التنظيمية بالإضافة إلى المجالات المتخصصة. فبحثا «عن الأدوية البسيطة» و«عن قوى الأطعمة» هما عبارة عن فهرسين يحتويان على قوائم مطولة من المواد، جمعها جالينوس وكانت ثمار سنوات طويلة من البحث، وكثير من دراسات الحالة والتجارب. كيف يمكن ترتيب هذه القوائم ترتيبا مترابطا؟ يتحدد الترتيب جزئيا على أساس فئة القراء؛ فمن الممكن أن يستفيد القراء غير المتخصصين بالترتيب الأبجدي، وهو الذي يستخدمه جالينوس لبعض أجزاء كتابه «عن الأدوية البسيطة» وليس كلها. أما الأطباء الخبراء، فمن الممكن أن يناسبهم الترتيب بحسب الفئات الطبية؛ ومن ثم، فإن بحث «عن قوى الأطعمة» مرتب بحسب الأطعمة الأكثر انتشارا وفاعلية (بادئا بالأطعمة ذات القيمة الغذائية الأعلى أولا؛ وهي القمح في الجزء الأول، ولحم الخنزير في الجزء الثالث). وبالمثل، يستهل جالينوس كتابه «عن النظام الغذائي المستخدم في التنحيف» بالأطعمة الأكثر فاعلية في تخفيف الأخلاط الغليظة؛ وهي البصل، وينتهي بأقلها فاعلية في ذلك؛ وهي الجبن والعسل. يكتب جالينوس أيضا بأسلوب واضح وبلاغي، يتخلله قدر كبير من التنوع، كالقوائم المجردة في كتابه «عن العقاقير النباتية البسيطة»، والنوادر والأدلة في كتابه «عن قوى الأطعمة»، والأسلوب البلاغي القائم على الانتقاد والذم في بعض المواضع في أجزاء من كتاب «عن القوى الطبيعية»، والعبارات البلاغية الباهرة في بحث «عن التكهن بسير المرض».
نظم جالينوس إنتاجه الغزير بعناية فائقة، ونجده يناقش مبادئ تنظيم كتبه وصعوبات إنتاجها في كتابيه «عن كتبي» و«عن ترتيب كتبي». ويستخدم نظاما للإسناد الترافقي بين كتبه؛ ومن ثم فإنه يحيل قارئه في بحثه «عن قوى الأطعمة» - على سبيل المثال - إلى بحثه «عن العقاقير النباتية البسيطة» للاطلاع على مناقشة لبعض خواص الكبد، مثلا. وعند المقارنة بين هذين البحثين بالتحديد نتعرف على المزيد من مبادئ التنظيم التي يستعملها. يدرج جالينوس عددا كبيرا من الحبوب والبقول في بحث «عن قوى الأطعمة»، وهو عدد يزيد عن الذي ذكره المؤلف التابع لمدرسة أبقراط في بحث «الحمية 2». كما يذكر المزيد من النباتات الثانوية، ولكنه لا يذكر الكثير من أنواع الأسماك المتنوعة. وهو يحاول أن يكون شاملا، ليس بأن يذكر كل شيء قدر الإمكان، بل بمناقشة كل الفئات ذات الصلة؛ فكيف ينجز مهمته؟ توجد فقرة مفيدة بهذا الشأن في الموضع 2، 51 من كتابه، وفيه يناقش جالينوس أنواع الكرفس، وأنواع الكرفس البري («هيبوسيلينوي»)، والجزر الأبيض («سيا»)، وأنواع الكرفس البري الكريتي («سميرنيا»). ويستعرض في المادة التي يتناولها عدة جوانب: (1)
نامعلوم صفحہ