طعام فی عالم قدیم
الطعام في العالم القديم
اصناف
يجمع الاحتفال بين موسم النبيذ الجديد والموت، ويجمع بين الأسرة والمدينة، ويجمع بين إدماج النبيذ الجديد وأفراد الأسرة الجدد وأفرادها من الموتى. وتوجد أدلة قوية على الصلة التي تجمع النبيذ والموت، ويمكن ملاحظة هذه الصلة في أسطورة إيكاريوس، وفي أناشيد هوراس (1، 9)، وفي العبارات المفككة التي يتفوه بها تريمالكيو وهو سكران في النص الذي ألفه بيترونيوس. كان إيكاريوس يعيش في قرية إيكاريا، على المنحدرات الشمالية من جبل بنتلي في أتيكا، وحين أتى ديونيسوس بنبيذه إلى أتيكا، قبل إيكاريوس النبيذ وتقاسمه مع جيرانه، وحين سكروا خافوا (مثل بنتيوس - ملك طيبة - في مسرحية «الباخوسيات») أن يكون قد حاق بالقرية مكروه بدلا من أن يكون قد حل بها خير، وقتلوا إيكاريوس وشنقت ابنته إريجوني نفسها فوق شجرة صنوبر. وأدمجت هذه القصة الحزينة ضمن احتفال أنثيستيريا (وكذلك عادة احتساء الخمر انفراديا إحياء لذكرى أوريستيس الذي قتل أمه)، وصنعت قدور عليها رسوم تصور فتيات يجلسن على أرجوحات، في إشارة إلى إريجوني. وما زال الموقع الجميل الذي كانت تحتله قرية إيكاريا محتفظا بأشجار الصنوبر، وعثر هناك أيضا على تمثال من القرن السادس لديونيسوس، وعثر أيضا على مسرح كانت تمثل عليه الأساطير العنيفة التي تتصل بإله الخمر (من بين آلهة أخرى، على الأرجح). وما زال يوجد أيضا نصب تذكاري يعود للقرن الرابع، يسجل انتصار أحد رعاة العروض التمثيلية التي كانت تقام في ذلك المسرح. ومن الممكن أن نشير أيضا إلى الأفكار الملتبسة الواردة في مسرحية «الأخارنيون» من تأليف أريستوفان؛ ففيها يعيد البطل ديكايبوليس عيد ديونيسيا إلى بلدته، ويربح في مباراة احتساء الخمور في احتفال أنثيستيريا، وهما ميزتان. ومع ذلك، يرى الكثير من المعلقين (بووي 1993، فيشر 1993) أنه يتصرف بأنانية بما يتعارض مع مصالح مواطنيه (وترد مناقشة لهذه الفكرة في ويلكنز2000: الفصل الثالث)، ويذكرنا بمن يشربون الخمر بمفردهم تقليدا لأوريستيس. وتشكل الموضوعات السوداوية الكئيبة في المسرح الكوميدي أهمية كذلك، وإلا فقد نعتقد (مثل هينريكس 1990) أن ديونيسوس الرهيب كانت تصوره المسرحيات التراجيدية فقط، وأن ديونيسوس المرح البهيج كانت تصوره المسرحيات الكوميدية فقط.
وتتمثل صعوبات التعامل مع المشروبات الكحولية في عدة صور: في الشعر الذي يحث على الاتزان وضبط النفس، وفي طقوس احتساء الخمور التي توازن بين السكر الجماعي وبين الحذق والظرف، وفي القصص التحذيرية التي تتناول حالات سكر خرجت عن نطاق السيطرة. وعلى الرغم من الأخطار التي يسببها الخمر واحتساؤه، كان الخمر يحظى باحترام كبير في العصور القديمة، وكان دائما ما ينظر إلى جلسة الشراب - وهي قسم من المأدبة كانوا يحتسون فيه الخمر في الثقافة الإغريقية وكثيرا في الثقافة الرومانية - بصفتها اللحظة التي تتجلى فيها الحكمة والتأملات الثقافية . أما القسم المخصص لتناول الطعام من المأدبة، فكان نادرا ما يحظى بتلك المكانة. (حقق الحاضرون في المأدبة التي صورها أثينايوس في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي » تلك المكانة، ولكن ذلك الكتاب حالة خاصة.)
ليس من المؤكد أن الخمر كان منشؤه في الشرق الأدنى، وأنه دخل عن طريق ديونيسوس حسبما تقول الأسطورة أو عن طريق نقل تكنولوجيا تصنيعه إلى البلدان الإغريقية الرومانية. ربما تكون زراعة العنب - كما هي الحال مع غيره من النباتات المزروعة - قد نشأت دون مساعدة خارجية في عدة مواقع؛ ولذلك يدعي ماكغفرن (2003) - استنادا إلى أحدث دليل متاح قائم على تحليل الحمض النووي - أن العنب المزروع وليس البري نشأ فيما يبدو في مناطق في شرق تركيا قبل عام 5000 قبل الميلاد. ويبدو أن ما وصلنا إليه حاليا من أدلة ومعلومات، يشير إلى أن العنب انتشر من هناك إلى بلاد الرافدين وأوروبا. ويتناول ماكغفرن أيضا الأدلة التي تثبت مزج النبيذ بالجعة وبالكثير من النكهات الأخرى في الشرق الأدنى، ويأتي عدد منها (فيما عدا الجعة) في كتابات المؤلفين الرومان.
شكل 6-2: رحلة ديونيسوس بحرا؛ حين حول ديونيسوس صاري السفينة إلى فرع عنب، وحول القراصنة الذين أسروه إلى درافيل، الأمر الذي يعبر عن قدرته هو والنبات الذي يقدسه على التبدل والحركة. في الفكر القديم، كان العنب جزءا ضروريا من البلدان الإغريقية الرومانية المتحضرة، ولكن كان يعرف أنه قد جاء - شأنه شأن نباتات أخرى - من أراضي الشرق. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من متحف المجموعات الأثرية الوطنية ومتحف جليبتوتيك في ميونخ.)
يرجع الكثير من طقوس الشراب والطعام إلى ما بعد عهد هوميروس، ورأينا أن الاتكاء - وليس الجلوس إلى المائدة - كان من بين هذه التطورات المهمة. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن النبيذ كان معروفا في العصر البرونزي لدى الحضارة المينوية وحضارة مايسيني، وذلك في صورة أقداح الشراب وجرار النقل ورواسب كيميائية. وتثبت هذه الأدلة استخدام أنواع النبيذ المنكه بالراتينج والنبيذ المنكه بنباتات مثل إكليل الغار والسذاب. ويقدم ماكغفرن (2003) أدلة على وجود أنواع النبيذ المنكه بالراتينج في الشرق الأدنى قبل ذلك ببضعة آلاف عام؛ فعملية إضافة النكهات هذه موجودة أيضا في الفترة التاريخية. وعلى حد علمنا، فإن قصائد هوميروس تخلو من أي جلسات شراب رسمية من هذا النوع، ولكن يوجد الكثير من سمات احتساء الخمور التي ترتبط بالشكل الأحدث لجلسات الشراب؛ فالأبطال في أعمال هوميروس الذين يحلون ضيوفا على منزل مضيف عادة ما يقدم إليهم مضيفهم طعاما وشرابا عند وصولهم (في الجزء الرابع من ملحمة «الأوديسا»، مثلا). وعادة لا يوجد فصل ملحوظ بين تناول الطعام واحتساء المشروبات. يستعمل هوميروس بالأحرى العبارة الكثيرة التكرار: «وحين أشبعوا رغبتهم في تناول الطعام واحتساء الخمر ...» فتناول الطعام واحتساء الخمور يأتيان في مرحلة واحدة؛ وعندئذ ينتهي وقت تناول الطعام، ويحين الوقت للتوجه لأنشطة أخرى، مثل النوم والحديث وقص الحكايات والغناء والرقص، ويصاحب ذلك احتساء النبيذ الذي يمزج في إناء عميق أو وعاء مزج الخمر.
وفي الفترة اللاحقة لتلك الفترة في العصور القديمة، نجد أن قص الحكايات والغناء والرقص وغير ذلك من أوجه الترفيه قد أصبحت فيما يبدو من سمات جلسة الشراب. ولكن بحلول عصر الإمبراطورية في روما أصبح احتساء الخمور أقرب إلى النموذج الوارد في أعمال هوميروس؛ فاحتساء الخمور يبدأ في مرحلة مبكرة - في بيترونيوس وأثينايوس بأي حال من الأحوال - إذ يقدم النبيذ إلى الضيوف في البداية. وتتخلل وسائل الترفيه أيضا المأدبة المقامة في منزل تريمالكيو. أما في «مأدبة الحكماء» لأثينايوس، فإن الحديث الذي يتبادله حاضرو المأدبة ويتصدر أنشطتهم يستمر بلا انقطاع منذ البداية، مع أنه يقال إن وسائل الترفيه تقدم في جزء المأدبة المتعلق بجلسة الشراب. والدليل الذي يقدمه أثينايوس مهم للغاية لمقاصدنا؛ إذ إنه يكتب في أواخر المدة التي نتناولها في هذا الكتاب، ويلخص العادات السابقة على هذه المدة. وهو يصف أيضا مأدبة ذات طابع إغريقي في روما، ويمزج بين الثقافتين من نواح كثيرة.
وبالمقارنة بطرق احتساء الخمر التي ظهرت فيما بعد، نجد أنه يمكن وصف احتساء الخمر في أعمال هوميروس بأنه نموذج لأفضل العادات، وهذا هو بالضبط الادعاء الذي يرد في الجزء الخامس من كتاب أثينايوس. وجدير بالذكر أيضا أن تفاصيل عادات تناول الطعام واحتساء الخمور لا ترد عادة في قصائد هوميروس. ونجد أن «الرغبة في تناول الطعام واحتساء الخمر» تسيطر على الكثير من التفاصيل الواردة في الكثير من الفقرات، وفي فقرات أخرى ترد «كل أنواع الأطعمة» (دون تحديد). وتتناول القصائد تحضير اللحم بالتفصيل، وتتناول تحضير النبيذ بقدر أقل من التفاصيل؛ وهو ما يتناقض تناقضا ملحوظا مع العصور التي أعقبت هذا العصر.
ونجد أيضا أن من يتناولون الطعام ويحتسون الخمر في أعمال هوميروس يجلسون على مقاعد. وفي مرحلة لاحقة من العصر الإغريقي القديم أدخلت تغيرات مهمة في عادة جلسة الشراب فيما يبدو، وذلك كما جاء في الفصل الثاني. وأبرز هذه التغيرات هي «كليني» - أو الأريكة - التي كان يتكئ عليها من يتناول الطعام أو من يحتسي الخمور؛ ويبدو أن هذه العادة قد جاءت إلى البلدان الإغريقية من الشرق الأدنى، وانتشرت غربا إلى الإتروريين والرومان. ثم جاءت الأواني الخزفية أيضا لتزيين موائد من يحتسون الخمور؛ مثل الأقداح وأوعية المزج والمغارف المخصصة لغرف النبيذ والمصافي والمبردات. وكل هذه الأدوات كانت تزخرف بزخارف منمقة، وكانت الأواني تزخرف أيضا بالذهب والفضة، وهو ما أخذ يزداد شيوعا بدءا من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما قبل ذلك بكثير (فيكرز وجل 1994). وكان من بين الأمور اللافتة للغاية إدراج احتساء الخمور في عرف اجتماعي أخلاقي، لتوجيه من يشربون الخمور لاتباع منزلة وسطى بين السكر وعدم المشاركة تماما في احتساء الخمور. كان التوازن مطلوبا في شتى المجالات، وكان هذا يشمل التوازن الاجتماعي، مثل السلوك المناسب بين الأشخاص ذوي المكانة المتماثلة، والسلوك اللائق سياسيا، والسلوك المناسب بين الأقران. ويظهر بوضوح في الكثير من الشعر الإغريقي القديم عرف أرستقراطي يعزز النظام السياسي للمدينة ذات الحكم الذاتي الآخذة في التطور.
ونشأت كل الأغاني وصور الشعر الجديدة التي تكمل ملاحم هوميروس ووسائل الترفيه المصاحبة لجلسات الشراب في العصر القديم. كان لشعر الرثاء وشعر التفعيلة العمبقية صلات قوية بجلسات الشراب.
والآن، أخيرا كنست الأرض وصارت أيادي كل الضيوف نظيفة، وكذلك أقداحهم، ويضع أحد العبيد الأكاليل المجدولة على رءوسهم، ويقدم عبد آخر عطرا حلو العبير في صحن صغير، ووعاء المزج يبدو مملوءا بالطيبات، وأنواع النبيذ الأخرى جاهزة وتعد بألا تنفد أبدا، والنبيذ المعتق في الجرار يفوح بعبيره، وفي خضم ذلك ينبعث من البخور عطره المقدس، ويوجد ماء بارد وصاف. والأرغفة الصفراء جاهزة في المتناول، وتئن مائدة فخمة بثقل الجبن والعسل الشهي، وفي الوسط يوجد هيكل تحفه الزهور، ويعج البيت بالغناء والرقص والعطايا. ولكن الرجال المحتفلين عليهم أولا حمد الإله بالقصص الورعة والكلمات النقية، وعليهم أداء طقوس إراقة الخمر والصلاة طلبا للقوة التي تمكنهم من فعل الصواب (فذلك هو الواجب الأقرب)، ليس من الخطيئة أن تشرب قدر استطاعتك على أن تظل قادرا على العودة إلى منزلك دون مرافق، إلا إذا كنت متقدما في السن. فنعم ذلك الرجل الذي يظل يعبر عن أفكار جميلة حتى وهو يحتسي الخمر، وذلك حسبما تسعفه الذاكرة، وحماسه للفضيلة في أوجه! وليس من الحكمة أن يحكي عن مشاجرات الجبابرة والعمالقة أو عن مشاجرات وحوش القنطور، أو عن قصص الرجال من العصور السابقة أو مشاداتهم العنيفة؛ فذلك يخلو مما يفيد، ولكن من الصواب دوما احترام الآلهة. (كزينوفانيس، الشذرة 1 ويست، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
نامعلوم صفحہ