- هل تؤمنين بالحب؟ - الحب؟ - نعم الحب! - وهل أومن بشيء آخر؟ - ماذا تعرفين إذن عنه؟ - كل شيء! - لا، أريد شيئا واحدا. - إنه عين أرى فيها نفسي. - أنت تحبين نفسك! - إذا لم أحب نفسي فلن أحب! - بل لأنك تحبين نفسك فلن تحبي! - وهل تفهمين نفسك؟ - إلى حد كبير. - إذن ماذا تريدين مني؟ - أريد أن أراك دائما، أن أنظر في عينيك كثيرا. - وهل هذا يكفيك مني؟ - كل الكفاية. - أنت طفلة، أنت مراهقة. - لا، لست طفلة ولا مراهقة. - أنت لا تحبينني إذن. - بل أحبك كما لم أحب من قبل. - أنت إذن تكذبين! - أنا لا أعرف الكذب. - إن عينيك تكذبانك، أرى فيهما كل ما تريدين. - وماذا أريد؟ - تريدين أن أترك مكاني البعيد هذا وآتي إلى جوارك، وآخذ رأسك الصغير على صدري، وأتحسس شعرك ووجهك، وأهمس في أذنك: «إنني أحبك، إنني أريدك بكل كياني ووجودي!» - أنت تحبني لأنك تريدني. - وهل تريدين أن أحبك لأنني لا أريدك. - أنت تحبني بحواسك. - وهل أستطيع أن أحبك بغير حواس؟ - أنت لا تحب ذاتي، أنت لا تحب روحي الكامنة في أعماقي. - هذه الروح هي أنت، هي شعرك، ووجهك، وعيناك، وشفتاك، وذراعاك، وكل خلية فيك، كيف كنت أراك إذا لم تكوني جسدا؟ وكيف كنت أحبك إذا كنت خيالا هائما لا يرى ولا يحس؟ - أود أن تحب عقلي، وتفكيري، وصوتي، وكلامي، إنك لا تستمع إلي، إنك لم تستمع إلي أبدا. - أنت لست رجلا، وأنا لست مراهقا، لقد عشت أربعين عاما يوما بيوم، لم أضيع من عمري ساعة واحدة أعرف فيها نفسي إلا وعرفتها، إنني أحبك بكل تجاربي، ونضوجي، ووعيي. إن حبي لا يمكن إلا أن يكون كاملا. - وماذا تريد مني؟ - أريدك بكل ما فيك، أريد شعرك، وعينيك، وشفتك، وصوتك، وكلامك، وذراعيك، أريد روحك، وجسدك معا. - وإذا لم تنل جسدي، هل تكرهني؟ - لا أستطيع أن أهجرك. - هل تهجرني؟ - لا أستطيع أن أهجرك. - هل ستبقى على حبك لي؟ - الحب كالزهرة لا تحيا إلا إذا رواها قلبان. - سوف يموت حبك إذن؟ - الحب لا يعيش في الحرمان! - ولكنهم يقولون: الحرمان أجمل ما في الحب. - هذا صحيح، الحرمان أجمل ما في الحب؛ لأن الحب الكامل الصادق يظل في حرمان دائم، يظل دائما ظمآن، متلهفا إلى متعة جديدة. - إلى امرأة جديدة؟ - لا، إلى متعة جديدة في الحبيبة نفسها. - وحينما ينضب معين اللذات. - معين اللذات لا ينضب في الحب. - لكل شيء نهاية! - أنت لا تثقين في نفسك. - الرجل يعاف المرأة بعد أن ينالها. - إذا لم يكن يحبها. - وإذا كان يحبها؟ - يحبها أكثر وأكثر. - أنت رجل مادي. - أنا من لحم ودم. - أنت رجل وجودي. - ما معنى «وجودي»؟ أنا أعيش حياتي، أنا رجل طبيعي، أمارس طبيعتي بلا عقد، لماذا أقيدها؟ لماذا أعقدها؟ لماذا؟! - هل تسمي العفة قيدا؟ - ما معنى العفة؟ - هي الترفع عن الابتذال. - وما هو الابتذال؟ - هو الرخص، هو الاستسلام للشهوة. - وما شأن ذلك بالحب؟ الحب لا يعرف الابتذال ، ليس فيه شيء رخيص، الحب هو الشرف، الابتذال في الحب هو الخيانة، والعفة في الحب هي البذل الصادق، والأخذ الصادق، أي التبادل الصادق. - إن لك في الإقناع أسلوبا غريبا. - لأنني أقول الصدق. - أعرف أنك صادق. - اقتنعت إذن؟ - عقلي هو الذي اقتنع. - وشعورك؟ - وشعوري اقتنع ولكن. - ولكن ماذا؟ كوني طبيعية، كوني صادقة، كوني نفسك! - ولكن، لن أكون رخيصة!
أحلام
كانت سهير تريد أن تختفي، على الأقل من مكتبها، لتفكر بعيدا عن ضجة البيت، وما فيه من أم وأب وإخوة وأخوات.
وأخذت كتابا تحت إبطها، وقامت في تثاقل تجر جسدا منهكا لم ينم ليالي كاملة. وأغلقت باب حجرة المكتب بالمفتاح إشارة لمن في البيت إلى أنها ستراجع دروسها، ولا تريد أية مشاغل خارجية. وما إن اطمأنت إلى أنها وحدها حتى ألقت بالكتاب على المكتب في ضجر، وتمددت في إعياء على الأريكة القصيرة التي لا تسمح لها بأن تمدد جسمها الطويل عليها، إلا إذا أطلت قدماها من نهايتها، وتعلقتا في الهواء.
وبين سهير وبين هذه الأريكة عداء شديد، لا تدري له سببا، ولعل طول قامتها أيام المدرسة الثانوية كان مساويا لطول الأريكة فلم تكن قدماها حين ذاك تتعلقان في الهواء، أو لعل الأريكة كانت أحسن حالا منها الآن، فلم تكن أسلاك التنجيد تبرز من بطنها وتشك ظهرها وهي نائمة، ورغم كل ما تعرفه سهير عن هذه الأريكة فإنها لم تفكر فيها حينما ألقت جسدها المتعب عليها، كانت في رأسها الصغير معركة حامية يكاد لهبها يذيب مادة مخها ويفتتها، كما فتت الأرق جسمها النحيل أربع ليال كاملة.
وأخفت سهير وجهها بكفيها وخرجت رغما عنها كلمة أصبحت تلازمها في خطواتها: يا رب.
ورفعت كفيها عن وجهها وعينيها نحو السقف وشفتاها ترددان كأنها في غيبوبة: يا رب.
وأخذت تفكر، هل يمكن أن يصنع ربنا من أجلها شيئا؟ هل يستطيع أن يمحو من الوجود ما حدث لها، وهو على كل شيء قدير؟ - أستغفر الله العظيم.
نطقت بها سهير في وجل كأنها تخاف أن تكفر بالله فلا يبقى أمامها أمل، وأملها الوحيد الباقي هو الله، أن يصنع من أجلها معجزة ليقتل هذا المخلوق الثقيل الذي يتمسك بالحياة كأنها قطعة من الحلوى، والذي رغم ما فعلته من قفز وجري وخبط على بطنها، يصر على أن يظل متشبثا بأحشائها ملتصقا بكيانها لا يتزحزح أبدا.
ورفعت سهير جفنين متورمين من السهر والبكاء، ونظرت حولها في دهشة، كيف حدث لها ذلك؟ إنه لم يخطر ببالها قط أن تقع في مشكلة كهذه، خصوصا هي، هي التي لم ترسب في المدرسة أبدا، هي التي يقول عنها أبوها إنها أحسن البنات، كيف تصبح سهير بعد هذا كله أما بلا زواج لجنين غريب لا تعرف شكله ولا تعرف حتى كيف جاء؟! فهي لم تكن تحب، ولم تكن تفكر في الحب.
نامعلوم صفحہ