ولكن، لماذا لم يكتشف أبوه مسألة الحظ، وهل المسألة حظ أو خجل؟ أو أنها ليست هذا ولا ذاك؟ وإذا لم تكن هذا ولا ذاك فماذا تكون؟
وأشعل سيجارة أخرى، وهو يبحث في رأسه عما تكون المسألة، ولم يعرف شيئا، لكنه أحس أنه يريد أن يكون له شيء، يريد أن يكون له أحد، يريد.
وكأنما أفاق على شعور جديد، وكأنما عثر على جزء ضائع من نفسه أو قلبه، أو رأسه، ولم يشعر إلا وهو يلقي السيجارة من فمه، ويشد عضلات جسمه، ويعدل قامته المقوسة، وهرش رأسه، أخيرا قال، قال وهو في الأربعين ما كان يقول أخوه الصغير وهو في العاشرة.
شيء آخر
خرج الدكتور رجب من باب شقته، وأغلق الباب وراءه، وتقدم بخطوات ثقيلة إلى المصعد ، ثم هبط إلى الدور الأرضي، ووقف له عم عثمان البواب، وحياه تحية الصباح، ورد عليه الدكتور برأسه في حركة كسول. وعند باب العمارة رأى العربة «الكاديلاك» الفاخرة تنتظر كعادتها كل صباح، عربة «سيد بك الحناوي»، ورأى هو الفيات الصغيرة تقف خلفها في خجل، إنه يرى هذا المنظر المؤلم كل يوم كأنه لوحة ثابتة لا تتغير. وفتح الدكتور سيارته وحنى قامته الطويلة ليدخل من الباب الصغير، وسارت السيارة ببطء ليس فيه حماس، ودخلت من شارع جانبي ثم خرجت إلى شارع آخر، ثم دخلت في حارة ضيقة، ثم خرجت إلى خرابة كبيرة، وانحرفت إلى اليسار، وأخرج الدكتور رأسه من النافذة وبصق على الأرض.
كل يوم يمشي في هذا الطريق السخيف ويشم رائحة الخرابة العفنة، ويرى أولاد الحارة بأثوابهم القذرة، يتشاجرون بألفاظ قبيحة، وحينما يرون عربته يجرون خلفها ويقذفونها بالطوب ويصنعون خلفها قطارا يصفر ويهلل: «الدكتور أهه أهه»، ولا ينقذه منهم إلا توفيق عبده «التمورجي» الذي يلمح عربة الدكتور من بعيد وحولها العيال، فيشمر جلبابه، ويمسك طرفه بأسنانه ويجري نحوه، ويهب في الأولاد كالكلب المسعور، وينزل عليهم ضربا بالعصا، ويتفكك قطارهم نصف العاري، ويختبئون في شقوق على الأرض كالأرانب. ويسترد توفيق أنفاسه، ويبلع ريقه في زهو، ويقترب من عربة الدكتور، ويحييه بيده، ويبتسم ويقول: «صباح الخير يا سعادة البيه، أصلهم كلهم ولاد حرام.»
ويبصق الدكتور على الأرض، وينظر إلى توفيق في غيظ: «صباح الزفت والقطران إنت لسه عايش، طول ما بصطبح بوشك العكر ده طول ما ربنا مش حيتوب علي من القرف بتاعكم.»
ويبتسم توفيق ويقول: «ليه يا بيه، ده انت الخير والبركة، ربنا يخليك لنا.»
ويرد الدكتور بسرعة: «ربنا يخرب بيتك، امشي انجر، اسبقني على المستوصف، وزيح البلاوي من سكتي.» - حاضر يا بيه.
ويجري توفيق وطرف جلبابه في فمه، إن البيه الدكتور مبسوط النهاردة هكذا يقول له «الترمومتر»، والترمومتر هو كلمة صباح الخير يا سعادة البيه، فإذا لم يرد عليه البيه بتاتا فكأنه لم يسمع، ومعنى ذلك أن الحالة «ج» ومزاج البيه كالقنبلة المضغوطة التي ستفرقع بعد قليل، على دماغه طبعا ودماغ كل هيئة المستوصف بما فيهم الحكيمة ست عنايات، وإذا قال له صباح الزفت والقطران وسكت فإن مزاجه نص نص، وإذا كمل الزفت والقطران بوشك العكر والقرف بتاعكم وربنا يخرب بيتك فمعنى ذلك كله أن البيه «مبسوط» وآخر مزاج.
نامعلوم صفحہ