بسْم اللهِ الرّحمن الرّحيمُ
قالَ الشيخُ الإسلام وحُجّة الأَنام، العَلاَّمة، نَسيجُ وَحده، تُرجُمان الأَدَب واللِّسان، أبو البقاء عبد الله بن الحُسين العُكَبرِيُّ، أدامَ الله تأييدَه وتسديدَه.
1 / 111
١ - مسألة: [الكلام والكلمة]
الكلامُ عبارةُ عن الجُملة المُفيدة فائدةً تامةً، كقولك: «زيدُ منطلقُ»، و«إن تأتني أكرِمْك»، و«قُمْ»، و«صَهْ»،وما كان نحو ذلك.
فأمَّا اللّفظةُ المفردة نحو «زَيد» وحده و«مَن» ونحو ذلك فلا يُسمَى كلامًا بل كلمةً، هذا قولُ الجُمهور.
وذهبَتْ شِرْذِمَةُ من النّحويين إلى أنّ الكلامَ يُطلق على المُفيد
1 / 113
وغيرِ المُفيد إطلاقًا حَقيقيًّا.
والدّليلُ على القولِ الأَوَّلِ: أنَّه لفظُ يُعبَّر بإطلاقه من الجُملة المُفيدةِ، فكان حَقيقةً فيها، كالشَّرطِ وجوابِهِ، والدّليلُ على أنَّه يعبر به عنها لا إشكال فيه، إذ هو مُتَّفَقُ عليه، وإنَّما الخلاف في تَخصيصه بذلك دونَ غَيره، وبيان اختصاصه بها من ستّة أوجه:
أحدها: أنه يطلق بإزائها فيُقال: هذه الجُملة كلامُ، والأصلُ في الإطلاقِ الحقيقةُ.
الثاني: أنَّ الكلامَ تؤكّدُ به الجُملة كقولك: تَكلّمتُ كلامًا، وكلمتُهُ كلامًا والمصدَرُ المؤكَّدُ به نائبُ عن إعادةِ الجُملة، ألا تَرى أنَّ قولَكَ: قمتُ قيامًا وتكلّمتُ، تقديره: قمتُ قمتُ؛ لأنَّ الأصلَ في التَّوكيد إعادة الجُملة بعينِها، ولكنّهم آثروا أَلا يُعيدوا الجُملة بعينها، فجاءوا بمفردٍ في معناها، والنائبُ عن الشيءِ يؤدّي عن معناه.
والثالث: أنَّ قولَك كلمتُه عبارة عن أنَّك أفهمتَهُ معنى بلفظٍ، والمعنى المُستفادُ بالإِفهامِ تامُّ فكانت العبارة عنه موضوعه له، لا منبئة عنه، والكلامُ هو معنى كلمتُهُ.
والرابع: أن مصدَرَ تكلَّمتُ التَّكَلُّم، وهو مشدّد العَين في الفعلِ
1 / 114
والمصدَرِ، والتَّشديدُ للتَّكثير، وأَدنى التَّكثير الجُملةُ المفيدةُ.
وأمَّا كلَّمتُ فمشدَّدُ أيضًا، وهو دليلُ الكثرةِ، ومصدَرُهُ التَّكليم، التاء والياء فيه عوض عن التَّشديد.
والخامس: أنَّ الأحكامَ المُتَعَلّقة بالكلام لا تَتَحقّق إلاّ بالجملة المُفيدة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وإِنْ أَحَدُ من المُشرِكِيْنَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَهِ﴾. ومعلومُ أنَّ الاستجارة لا تَحصُلُ إلاّ بعدَ سماعِ الكلامِ التامِّ المَعنى، والكلمةُ الواحدةُ لا يَحصُلُ بها ذلك. وكذلك قولُه تَعالَى: ﴿يُرِيدُون أَنْ يُبَدِّلُوا كلامَ اللَهِ﴾ والتَّبديلُ صرفُ مايَدُل عليه اللّفظ إلى غيرِ معناه، ولا يَحصُلُ ذلك بتَبديلِ الكلمةِ الواحدةِ، لأنَّ الكلمةَ الواحدةَ إذا بُدّلت بغيرها كان ذلك لغةٍ إلى لغةٍ أُخرى وقالَ تَعالى: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيْقُ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوْهُ﴾،وإنَّما عَقلوا المَعنى التَّامّ ثُمَّ حرَّفوه عن جهته، ومثله قوله تعالى: ﴿يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، ومن ذلك تعليقُ اليَمِينِ بسَمَاعِ الكلامِ، فإنَّه لو قال: والله لا سمعتُ كلامَك فَنَطَقَ بلفظةٍ واحدةٍ ليس فيهَا معنى تَامُّ لم يَحنَث.
1 / 115
السادس: أن العربَ قد تَتَجَوَّزُ بالقول عن العجماوات كقول الشاعر:
امْتَلَأ الحَوْضُ وقالَ قَطْنِيْ ... سَلا رُويْدًا قَدْ مَلَاتَ بَطْنِي
وهو كثيرُ في استعمالهم، ولا يُنسب الكلامُ إلى مثل ذلك، فلا يقالُ تكلَّم الحَوْضُ ولا الحائطُ، ولا سبَبَ لذلك إلاّ أن الكلامَ حقيقةُ في الفَائِدةِ التَّامةِ، والقولُ لا يُشترطُ فيه ذلك.
«وإذا ثَبَتَ ما ذكرناه بانَ أنه حقيقةُ في الدِّلالة على الجُملة التّامة المعنى.
فإن قيل يتَوجّه عليه أسئلةُ:
أحدها:
أنَّ إطلاقَ اللّفظِ على الشيءِ لا يلزمُ منه الحقيقةُ، فإنَّ المجازَ يطلقُ على الشيءِ كما يُقالُ للعالم بَحْرُ، وللشّجاع أسدُ، وقال تعالى: ﴿جدارًا يريدُ أنْ يَنْقَضَّ﴾، ﴿واسأل القرية﴾، وكلُّ مجازُ، وقد أُطلق
1 / 116
على هذا المعنى، فلا يلزمُ من الإطلاقِ على ما ذكرتُم الحقيقةُ.
والسؤال الثاني:
أنَّ الإطلاقَ يَكونُ حَقيقةً مشتركةً، أو جِنْسًا تحتَه مفردات، فالمشتركُ كلفظ العين والجنسُ مثل الحيوان، فإنَّ الحيوانَ حقيقةُ في الجنس، والواحدُ منه حقيقة أيضًا، فَلِمَ لا يكونُ الكلام والكلمة من هاتين الحقيقتين؟.
والسؤال الثالث: أنَّ الكلامَ مشتقُ من الكَلْمِ وهو الجَرْحُ، والجامع بينهما التّأثيروالكلمةُ كذلك، لأنَّ الحروفَ الأصولَ موجودةُ فيها، وهي مؤثرة أيضًا إذ كانت تدلُّ على معنى، وهي جزءُ الجُملةِ التَّامة الفائدة، والجزءُ شارك الكلَّ في حقيقةِ وَضْعِهِ، أَلا تَرى أنَّ الحقَّ يثبتُ بشاهدين مثلًا، وكلُّ واحد منهما شاهدُ حقيقة، وإثبات الحقِّ بهما لا ينفي كونَ كلِّ واحدٍ منهما شاهدًا، كذلك ها هنا، ألا ترى أنَّ قولَكَ قامَ زيدُ يشتملُ على جزئين كلّ واحدٍ منهما يُسمى كلمةً، لدلالته على معنى، وتوقُّف الفائدة التَّامَّة على حكمِ يترتَّبُ على المجموع، ولا يَنفي ذلك اشتراك الجُزئين في الحقيقةِ، وعلى هذا ترتب التَّبديل والتحريف إذ كان ذلك كلُّه حكمًا يُستفاد
1 / 117
بالجُملة، ولا يَنفي حقيقة الوَضع، ثمّ ما ذكرتُمُوه معارضُ بقوله تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، وبقوله: ﴿كَلِمَةُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ هِيَ الْعُلْيَا﴾، و﴿تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ ومعلومُ أنه أَرَادَ بالكلمةِ المُفيدة. وإذا وَقَعَت الكلمةُ على الجُملةِ، جازَ أن يقعَ الكلامُ على المُفردِ.
فالجواب:
أمَّا الإطلاقُ فدليلُ الحقيقةِ؛ إذ كان المجازُ على خلافِ الأصلِ، وإنَّما يُصارُ إليه بقرينة صارفة عن الأصلِ، والأصلُ عدمُ القرائن، ثم إنّ البحثَ عن الكلامِ الدّال على الجملة المفيدةِ لا توجد له قرينة، بل يسارع إلى هذا المعنى من غيرِ توقُّفٍ على وجودِ قرينةٍ، وهذا مثلُ لفظِ العُموم إذا أُطلق حُمل على العُموم من غيرِ يَحتاج إلى قرينةٍ تصرفُهُ إليه، بل إن وُجِدَ تخصيص إلى قرينةٍ. أمَّا السُّؤال الثّاني، فلا يَصِحُّ على الوَجهين المَذكورين، أمَّا الاشتراكُ فعنه جوابان:
أحدهما: أنّه على خِلافِ الأصلِ؛ إذْ كان يُخِلّ بالتَّفاهُمِ، أَلا تَرى أنّه إذا أُطلق لَفظة (العين) لم يُفهم منه ما يَصحُّ بِناء الحُكم عليه، والكلامُ إنما وُضع للتَّفاهُمِ، وإنّما عَرَضَ الإِشتراك من اختلاف اللُّغات.
1 / 118
والثاني: أنّ الاشتراكَ هُنا لا يَتَحَقَّقُ؛ لأنَّ الكلامَ والكلامةَ من حقيقةٍ واحدةٍ، ولكنَّ الكلامَ مجموع شيئين فصاعدًا، اللّفظةُ المفردةُ ولا اشتراكَ بَينهما، وإنما الكلامُ مُستفادُ بالأوصافِ والاجتماعِ، وليس كذلك المشتركُ بلْ كلُّ من ألفاظه كالأخرى في كونِها مفردَةً. وأمّا الجنس فغيرُ موجودٍ هُنا؛ لأنَّ الجنسَ يفرَّق بين واحدة وبينه بتاء التَّأنيث نحو: تَمرةٍ وتَمْرٍ، وهذا غيرُ موجودٍ في الكلامِ والكلمةِ بل جنس الكلمةِ كَلِمُ وليس واحدُ الكلامِ كلامةُ، فبانَ أنَّه ليس بجنسٍ.
وأما السؤال الثالث: فخارجُ عمّا نَحنُ فيه، وبيانه: أنَّ اشتقاقَ الكلمةِ من الكَلْم، وهو التَّأثير، والكلامُ تأثيرُ مخصوصً، لا مطلقُ التأثير، والخاصُّ غيرُ المُطلق، يَدُلُّ عليه أنَّ الكَلْمَ الذي هو الجَرْحُ مؤثرُ في النَّفس معنى تامًّا وهو الأَلَمُ مثلًا، والكلامُ أشبَه بذلك؛ ولأنَّه يؤثِّرُ تأثيرًا تامًّا، وأمَّا الكلمةُ المفردةُ فتأثيرها قاصرُ، لا يتمُّ منه معنى إلاّ بانضمامِ تأثيرٍ آخرَ إليه، فهما مشتركان في أصلِ التأثير، لا في مِقداره.
وأمَّا المُعارضةُ بقوله تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ فلا تتوجهُ؛ لأنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه عَبَّرَ بالجُزء عن الكلِّ، وهذا مَجازُ ظاهرُ؛ إذ كان الواحدُ ليس بجمعٍ ولا جنسٍ، بل يعبَّر به عن الجَمعِ والجِنسِ مَجازًا ووجهُ المَجَاز أن الجُملةَ يتألَّفُ بعضُ أجزائِها إلى بعضٍ، كما تَتَأَلَّف حروفُ الكلمةِ المفردةِ بعضُها إلى بعضٍ، فلمّا اشتركا في ذلك جازَ المَجَازُ، وليس كذلك التَّعبيرُ عن الكلمةِ؛ لأنَّ ذلك نقضُ معناها، ودليلُ المجازِ في الكلمةِ ظاهرُ، وهو قوله: ﴿تَخْرُجُ من أَفْواهِهِمْ إنْ يَقُوْلُونَ إلاّ كَذِبًا﴾
1 / 119
والكذبُ لا يتحقّقُ في الكلمةِ المفردةِ، وإنّما يُتَصَوَّرُ فيما هو خبرُ، والخبرُ لا يكونُ مفردًا في المعنى.
واحتَجَّ الآخرون بأنّ الاشتقاقَ موجودُ في الكلمةِ والكلامِ بمعنى واحدٍ، وهو التّأثيرُ، فكان اللّفظ شاملًا لهما، يَدُلُّ عليه أنّكَ تقولُ: تكلّم كلمةً وما تكلمَّ بكلمةٍ فيؤكّد باللّفظةِ المفردةِ الفعلُ كما يؤكّد بالكلامِ فيلزمُ من ذلك إطلاق العِبارتين على شَيءٍ واحدٍ.
والجوابُ عن هذا ما تقدّم في جوابِ السُّؤال. والله أعلمُ بالصَّواب.
1 / 120
٢ - مسألة: [حد الاسم]
اختلفت عبارات النحويين في حدّ الاسم، وسيبويه لم يصرح له بحدِّ.
فقالَ بعضُهم: الاسم ما استحقّ الإعراب في أول وضعه.
وقالَ آخرون: ما استحقَّ التنوين في أصلِ وضعه.
1 / 121
وقالَ آخرون: حدّ الاسم ما سَما بِمُسَمَّاةُ، فأوضحه وكشف معناه.
وقالَ آخرون: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلّ على معنى مُفرد في نَفسِهِ.
وقالَ آخرون: هو كلُّ لفظٍ دلّ على معنى في نَفْسِهِ ولم يدل على زمان ذلك المعنى.
وقالَ ابنُ السّراج: هو كلّ لفظٍ دلَّ على معنى في نفسِه غير مقترنٍ بزمانٍ مُحصّل، وزادَ بعضهُم في هذا الحدِّ دلالةَ الوضعِ.
وقبل الخوض في الصّحيح في هذه العبارات نُبيّن حدَّ الحدّ،
1 / 122
والعبارات الصحيحة فيه مُختلفة الألفاظ مُتفقة المعاني.
فمنها اللَّفظُ على كمالِ ماهيَّة الشَّيءِ، وهذا حدُّ صَحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ هو الكاشفُ عن حَقيقةِ المَحدودِ، ويُرادُ بالماهية ما يُقالُ في جوابِ ما هو؟ واحتَرزوا بقولهم: «كمالُ الماهِيّة» من أنّ بعضَ ما يدلُّ على الحقيقة قد يَحصلُ من طريقِ الملازمةِ لا من طريقِ المطابقة، مثالُه: أن تَقولَ: حدُّ الإنسان هو الناطقُ فلفظُ الحدّ يكشف عن حقيقة النُّطق، ولا يَدُلّ على جنس المحدود، وإن كان لا ناطق إلاّ الإنسان، ولكن ذلك معلوم من جهة الملازمة، لا من جهة دلالة اللَّفظ، ومثالُه من النَّحو قولهم: المَصدرُ يدلُّ على زمانٍ مَجهولٍ، ولَيس كذلك، فإن لفظَ المَصدَرِ لا يَدُلُّ على زمانٍ البَتَّة وإنَّما الزّمان من ملازماته، فلا يَدخلُ في حدّه، ولو دَخَل ذلك في الحدّ لوجَب أن يُقالَ: الرَّجل والفَرسُ يدلان على الزَّمان والمكان، إذْ يُتَصَوَّر انفكاكه عنهما.
ولكنْ لمّا لم يَكُن اللَّفظُ دالًا عليهما يَدخلا في حدّه، وقالَ قومّ: حدُّ الحدّ: هو عبارةُ عن جُملة ما فرّقه التَّفصيلُ.
1 / 123
وقالَ آخرون: حدُّ الحدِّ: «ما اطّرد وانعكس»، وهذا صحيحُ؛ لأنَّ الحدَّ كاشفُ عن حقيقة الشَّيءِ فاطّرادُهُ يُثبِتُ حقيقتَه أينما وُجِدَتْ وانعكاسُهُ يَنفيها حَيثُما فُقِدت وهذا هو التَّحقيقُ، بخلاف العلامة، فإِنّ العلامة تَطّردُ ولا تنعكسُ، ألا تَرى أنّ كلَّ اسمٍ دخلَ عليه حرفُ الجرّ والتَّنوين وما أشبههما أَنَّى وُجِدَ حُكِمَ بكون اللّفظ اسمًا، ولا ينفي كونه اسمًا بامتناع حرف الجرّ، ولا بامتناع التَّنوين ونحوهما؛ وإذْ قد بانت حقيقةُ الحدّ فنشرعُ في تحقيق ما ذكر من الحُدود وإفساد الفاسد منها.
أما قولهم: الاسمُ كلُّ لفظٍ دلَّ على معنى مفردٍ في نفسه، فحدُّ صحيح إذ الحدُّ ما جمع الجنس والفصل واستوعبه جنسُ المحدود، وهو كذلك هاهُنا، ألا ترى أنّ الفعل يدلُّ على معنيين حدث وزمان، «وأمس» وما أشبهه يدلُّ على الزَّمان وحده، فكان الأول فعلًا والثاني اسمًا، والحرفُ لا يدلُّ على معنى في نفسِهِ، فقد تَحقّق فيما ذكرناه الجنس، والفصل، والاستيعاب، وأمَّا قولُ ابنِ السّراج فصحيحُ أيضًا، فإنّ الاسم يدل على معنى في نفسِهِ، فيفه احترازُ من الحرف وقوله «غير مقترن بزمانٍ محصّل» يخرج منه الفعل فإنه يدلُّ على الزمان المقترن به، وأما المَصادر فلا دلالة لها على الزمان، المَجهول ولا المُعَيّن على ما ذكرنا، ومن قالَ منهم: يدلُّ على الزَّمان المجهول فقد احترز عنه بقوله «مُحَصّل» فإن
1 / 124
المصدر لا يدلُّ على زمان معيّنٍ، وأمَّا من زاد فيه «دلالة الوضع» فإنّه قَصَدَ بذلك دفع النَّقض بقولهم: «أتيتكُ مَقدم الحاجّ» و«خفوق النَّجم» وأتت الناقة على منتَجِها فإن هذه مَصادر، وقد دلَّت على زمانٍ محصّلٍ، فعندَ ذلك تخرج عن الحدِّ، وإذا قالَ دلالة الوَضع لم يَنتقض الحدّ بها، لأنها دالةُ على الزَّمان لا من طريقِ الوضعِ، وذلك أن مَقدم الحاجّ يتفقُ في أزمنَةٍ معلومة بينَ النّاس، لا أنّها معلومةُ من لفظِ المَقدم، والدّليلُ على ذلك أنّك لو قلتَ: أتيتُكَ وقت مقدم الحاج صحّ الكلامُ، وظهرَ فيه ما كان مقدّرًا قبله، والتّحقيقُ فيه أن الحُدود تكشف عن حقيقة الشيء الموضوع أولًا، فإذا جاء منها شيءُ على خلاف ذلك لعارضٍ لم ينتقص الحد به وسَيَاتي نظائر ذلك فيما يمر بك من المسائل.
فأمَّا من قال: هو ما استحق الإعرابُ في أولِ وضعِهِ، أو ما استحقَّ التَّنوين، فكلامُ ساقطُ جدًّا وذلك أنّ استحقاق الشيءٍ لحكمٍ ينبغي أن يَسبِقَ العلم بحقيقته، حتى يرتب عليه الحُكْمُ، ألا ترى أنّه لو قالَ في لفظة «ضَرَبَ» هذا الاسم لأنه يستحق الإعراب في أولِ وضعه لاحتَجتَ أن تُبيّنَ أنه ليس باسمٍ، ولا يُعترض في ذلك بالإعرابِ وعدمه، ولو قال قائلُ: أنا أعربه أو أحكم باستحقاقه الإعراب؟ لقيلَ له: ما الدَّليلُ على ذلك؟ فقال: لأنّه اسمُ فيقال له: ما الدّليل على أنه اسم؟ فإن قال بعدَ ذلك: لأنّه
1 / 125
يستحق الإعراب أدى إلى الدَّور؛ لأنه لا يثبتُ كونه اسمًا إلا باستحقاق الإِعراب، ولا يَستحق الإِعراب إلا بكونِهِ اسمًا، وهكذا سبيلُ التّنوين وغيره.
وأمَّا قول الآخر «ما سَما بِسُمّاه» فحدُّ مدخولُ أيضًا؛ وذلك أنَّه أرادَ ما سمّي مُسَمَّاه، ولهذا قال: فأوضحه، فجعلَ في الحدِّ لفظَ المَحدودِ، وإذا كُنَّا لا نَعلمُ معنى الاسم فكيفَ يُجعل فيما يُوضحه لفظًا مشتَقًا منه؟ وذلك أنّ الاشتقاق يَستدعي فهم المُشتق منه أولًا، ثم يؤخذ منه لفظ آخر يدلُ على معنى زائد، قالَ عبدُ القاهر: في «شرح جملة»: حدّ الاسم: ما جازَ الإخبارُ عنه قال: والدّليلُ على ذلك من وجهين:
أحدهما: أنه مُطّرد ومُنعكس، وهذا إمارة صحّة الحد.
والثاني: أنّ الفعلَ لا يصحُّ الإخبار عنه، والحرفُ لا حظَّ له في
1 / 126
الإخبار، فعنى أن يكون الاسمُ هو المخبر عنه، إذ لا يجوز أن تخلو الكلمة من إسنادِ الخبرِ إليها، [كان] الفعلُ والحرفُ والاسمُ لا يُسند إليه خبر ارتفعَ الأخبارُ عن جملةِ الكلامِ، والدَّليلُ على أنه ليس بحدٍّ وإنّما هو علامةُ، وقد اختارَ ذلك عبد القاهر في «شرح الإِيضاح» أنَّ هذا اللّفظ يطرد ولا ينعكس. والدَّليل عليه قولك «إذ» و«إذا» و«أيّان» و«أَين» وغير ذلك، وأنها أسماء ولا يصحّ الإخبار عنها، فعندَ ذلك يَبطل كونها حدًّا.
والوَجهُ الثّالِثُ: أنَّ قولَكَ: ما جازَ الإخبار عنه لا يُنبئ عن حَقيقةِ وَضعه، وإنّما هو من أحكامِه، ولذلك لو ادَّعى مُدَّعٍ أنّ لفظةُ «ضَرَبَ» يصحُّ الإخبار عنها بأن يقول: ضَرَبَ اشتدّ كما تقول: الضَّربُ مشتدّ، لم يصح معارضته بالمنع المُجرَّدِ حتّى يُبيّن وجه الامتناع، والحدُّ لا يَحتاجُ إلى دليلٍ يُقام عليه، لأنَّه لفظُ موضوعُ على المَعنى، ودلالةُ الأَلفاظِ على المَعاني لا تَثُبتُ بالمناسبة والقياس.
فإن قيلَ: «إذ» و«إذا» ونحوهما يَصحُّ الإخبارُ عنهما من حيثُ إِنَّهما أوقاتُ وأمكنةُ وكلاهما يَصحُ الإخبار عنه وإنما عَرض لها أنّها لا تَقَعُ إلا ظُروفًا فمن حيثُ هي ظروفُ لا يخبرُ عنها، ومن حيثُ هي أوقاتُ وأمكنةُ يصح الإخبار عنها، ألا ترى أنَّك لو قلتَ: طابَ وقتُنا، واتّسع مكانُنا كان خبرًا صحيحًا.
1 / 127
فالجواب: أن كونها ظروفًا أو صفات انضمّت إلى كونها وقتًا أو مكانًا لم تستعمل إلا بهذه الصفة، فهي كالخصوص من العُموم والخُصوص، لا يحدُّ بحدِّ العُموم، ألا ترى أن الإنسان حيوان مخصوص، ولا يحدُّ بحدٍّ الحيوان العام؛ لأنَّ ذلك يسقط الفصل الذي يميّز به من بقيّة أنواع الحيوان والحدُّ ما جَمَعَ الجنسَ والفصلَ، فالوقت الذي يدلُ عليه إذًا هو الجنس، وكونه ظرفًا بمنزلة الفصل، كالنطق في الإنسان وبهذا يحصل جواب قوله يطّرد وينعكس، لأنا قد بيّنا أنه لا ينعكس والله أعلم بالصواب.
1 / 128
٣ - مسألة: [اسميّة كيف]
كيف اسم بلا خلافٍ، وإنَّما ذكرناها هنا لخفاء الدَّليل على كونها اسمًا، والدَّليل على كونِها اسمًا من خمسة أشياء:
أحدها: أنَّها داخلةُ تحت حدِّ الاسمِ، وذلك أنّها تدلُ على معنى
1 / 129
في نفسها ولا تَدُلُّ على زمانِ ذلك المعنى.
والثاني: أنَّها تجابُ بالاسم والجوابُ على وفق السُّؤال وذلك قولهم:
كيفَ زيدُ؟ فيقالُ: صحيحُ أو مريضُ أو غنيُ أو فقيرُ، وذلك أنها سؤالُ عن الحالِ، فجاوابها ما يكون حالًا.
والثالث: أنك تُبدل منها الاسمَ فتقول: كيفَ زيدُ؟ أصحيحُ أم مريضُ، والبدل ها هنا مع همزة الاستفهام نائب عن قولك أصحيح زيدُ أم مريضُ؟، والبدلُ يساوي المبدل منه في جنسه.
والرابع: أنّ من العرب من يدخلُ عليها حرف الجَرُ، قالوا: على كيفَ تبيعُ الأحمرين؟ وقالَ بعضهم: أنظر إلى كيفَ يصنع؟ وهذا
1 / 130
شاذ في الاستعمال، ولكنّه يدلُّ على الاسمية.
والخامس: أنّ دليلَ السّبْرِ والتَّقسيم أوجَبَ كونها اسمًا، وذلك أن يقال: لا تخلو «كيف» من أن تكون اسمًا أو فعلًا أو حرفًا، فكونها حرفًا باطلُ؛ لأنها تفيد مع الاسمِ الواحدِ فائدةً تامة كقولك: «كيفَ زيدُ». والحرفُ لا تنعقد به الاسم جملة مفيدة، فأما «يا» في النّداء ففيها كلامُ يذكر في موضعه، وكونها فعلًا باطلُ أيضًا لوجهين:
أحدُهما: أنها لا تدلُّ على حدثٍ وزمان ولا على الزَّمان وحدَه.
والثاني: أنَّ الفعلَ يليها بلا فَصل كقولك: كيفَ صَنَعتَ، ولا يكون ذلك في الأفعالِ إلاّ أن يكونَ في الفعلِ الأولِ ضميرُ كقولك: أقبلَ يسرعُ: أي أقبلَ زيدُ أو رَجُلُ، وإِذا بَطَلَ القسمان ثَبت كونها اسمًا؛ لأنَّ الأسماءَ هي الأصولُ، وإذا بطلت الفُروعُ حُكِمَ بالأصلِ، والله أعلمُ بالصَّواب.
1 / 131