فقال أبو حنيفة: اتق الله، وانظر فيما يقول الصفار.
قال: ليس على شيء فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ قال: استخلفه.
فقال أبو حنيفة للرجل: قُل والله الذي لا إله إلا هو. فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة عازمًا على أن يحلف، قطع عليه، وضرب بيده إلى كمه فحل صرة، وأخرج درهمين ثقيلين، فقال للصفار: هذان عوض من باقي تورك.
فنظر الصفار إليهما، وقال: نعم. فأخذ الدرهمين.
فلما كان بعد يومين، اشتكى أبو حنيفة، فمرض ستة أيام، ثم مات، رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
قال عباس: وهذا قبره في مقابر الخيزران إذا دخلت من باب القطانين يسرة، بعد قبرين أو ثلاثة.
وقيل: إن المنصور أقدمه بغداد لأمرٍ آخر غير القضاء.
وقيل: إنه أقام بعد قدومه إلى بغداد خمسة عشر يومًا، ثم سقاه المنصور، فمات، رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، وذلك في سنة خمسين ومائة، وله من العمر سبعون سنة.
فصل
في ذكر جود أبي حنيفة، وسماحه، وحُسن عهده، رضي الله تعالى عنه
عن قيس بن الربيع، قال: كان أبو حنيفة رجلًا ورعًا فقيهًا محسودًا، وكان كثير الصلة والبر لكل من لجأ إليه، كثير الإفضال على إخوانه.
وقال أيضًا: كان أبو حنيفة من عقلاء الرجال، وكان يبعث بالبضائع إلى بغداد، يشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي فما في رزق الله حول لغيره.
وحدث حجر بن عبد الجبار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكرامًا لأصحابه.
وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.
وكان أكرم الناس مجالسة.
وروى أنه رأى على بعض جُلسائه ثيابًا رثة، فأمره فجلس حتى تفرق الناس، وبقي وحده. فقال له: ارفع المصلى، وخذ ما تحته.
فرفع الرجل المصلى وكان تحته ألف درهم. فقال له: خذ هذه الدراهم فغير بها من حالك.
فقال الرجل: إني موسر، وأنا في نعمة، ولست أحتاج إليها.
فقال له: أما بلغك الحديث: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده "، فينبغي لك أن تغير حالك، حتى لا يغتم صديقك.
وروى أن امرأة جاءت إلى أبي حنيفة تطلب منه ثوب خز، فأخرج لها ثوبًا. فقالت له: إني امرأة ضعيفة، وإنها أمانة فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك.
فقال: خُذيه بأربعة دراهم.
فقالت: لا تسخر بي، وأنا امرأة عجوز كبيرة.
فقال: إني اشتريت ثوبين، فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقي هذا يقوم عليَّ بأربعة دراهم.
وجاء إليه رجل، فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز.
فقال: ما لونه؟ قال: كذا، وكذا.
فقال له: اصبر حتى يقع، وآخذه لك، إن شاء الله تعالى.
فما دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهمًا.
فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما كنت أظنك تهزأ.
قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين دينارًا ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين دينارًا، وبقي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
ومن المشهور عن مروءته، ووفائه ورعايته حق الجوار، ما روى أنه كان له جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل معه لحمًا فطبخه أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غنى بصوت، وهو يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعُوا ... ليَوم كريهةٍ وسدَادِ ثَغْرِ
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم.
وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس.
فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلة، واستأذن على الأمير. فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط.
ففعل، فلم يزل الأمير يوسع في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟
1 / 34