وقرأت ما كتبه جورج عبد المسيح، فكان ذلك بدء الطريق التي لا تنتهي.
منذ تلك اللحظة أيقنت أن من يصيب القليل من الشهرة، يستقطر غروره من أثرته خمرة تنفخ أوداجه؛ فتثمل عيناه، ويسفنكس هناك متعبدا في صومعة ذاته. •••
وكثر ترددي عليه بعد الزيارة الأولى، وتأرجحت عواطفي حياله من مقت وكراهية، إلى ود ومصافاة، وإني لأذكر ساعات كان أشهى ما لدي أن يغيب هذا الرجل عن فكري ونظري إلى الأبد، وها أنا اليوم - بعد ما يقرب من السنتين - أجدني أشغف ما أكون به أخوة وإعجابا.
في يقيني أن لهذا الشعور سببين: أولهما أن قد ترفعت نفسي عن تلك الأثرة التي تستثير العداء لكل متفوق في السلطة أو القوة - أي مناحيها - من عقلي وجسدي، واتحدت في ولاء لإيمان صهر الجهود؛ فأصبح الواحد يجد في انتصارات رفيقه وكبره كبرا لنفسه وانتصارات لها، والسبب الثاني أن سنتين من معاملة ومباحثة كشفت لي عن هذا الرجل، كل مناحي نفسه؛ فتمادى إعجابي به وودي له حين وضح قطعة إنسانية كاملة.
ولغير مناسبة، ولغير سبب، قصدت إليه أستنطقه هذا الحديث، وقد لا يكون لهذا الحديث من حافز إلا أني صرت أفهم هذا المواطن بعد أن اختبرته غاضبا، راضيا، ثائرا، ساكنا، واعظا، متعظا. وصار من الواجب أن تتعرف الأمة من جديد إلى هذا المواطن، وهو بعض ثروتها الوطنية الموارة في حناياها.
سألته السؤال التقليدي فأجابني: ولدت في زاوية البيت، وبيتنا اليوم خربة فوق «عين المشرع» قرب «بيت مري». - أبوك؟ - مات أبي إبان هربي في 2 آذار 1943. - ممن هربت؟ - من سلطات الحلفاء التي تمركزت في حلب، حكموا علي بالإعدام بتهمة التجسس للألمان، وكنا، نحن القوميين الاجتماعيين، معتقلين عند الألمان الذين اتهمونا بالتجسس لهم . الحقيقة أن الإنكليز قبل زحفهم نحونا من فلسطين نفثوا قطيعا من اليهود، الذين يتكلمون العربية، فجاءت تقاريرهم تقول: إننا نحن القوميين الاجتماعيين نؤلف قوة مقاتلة؛ فبادروا إلى شطبنا من هذه المنطقة الحساسة. - وأمك؟ - هي في بيت مري، عمرها 83 سنة، إنها لن تراني؛ فهي قد فقدت نظرها، أمي عمياء، لا تسلني عنها، لا أقدر أن أتكلم عن أمي، سل سواي يخبرك، عبد الله قبرصي مثلا، أو أسد الأشقر، أو جورج مصروعة. - قل لي شيئا عن طفولتك، عن ثقافتك. - أول محاضرة سمعتها كانت من أبي، كنا نحرث في الحقل، أي إن أبي كان يسوق الفدان، وأنا أضرب بالمعول خلفه، اقتلعت الكثير من جذور قاسية عميقة - جذور التيول - وحملتها إلى حقل جارنا العدو، ورميتها لكي تنشب في أرضه، ورجعت أخبر أبي فخورا بما فعلت؛ فخلع أبي النير عن الفدان ومشى بي إلى فيئ شجرة، وهنالك جلسنا أستمع إلى أول محاضرة في حياتي. إن أبي لم يأمرني بأن أفعل شيئا، ولكني بعد سماع محاضرته رحت إلى حقل جارنا وأحرقت جذور التيول. هذه أول معركة انتصرت فيها على نفسي. - وغيرها من المعارك؟ - كثيرة، أذكر منها معركة الخوف في الحرب العالمية الأولى، وكان عمري 6-7 سنوات، وكان لي عم، اسمه جورج عبد المسيح أيضا، حكم عليه الأتراك بالإعدام لانضمامه للحركة اللامركزية، وكان مختبئا في الحرش قرب بيت مري، وكنت أذهب إليه في الليل، مارا بالثكنات العسكرية حاملا الزوادة، وكثيرا ما رأيت الوحوش تنهش جثث موتى الجوع، وصرت أستلذ الأخطار، وأتمهل في سفراتي الليلية. لي عم آخر اسمه يوسف عقل عبد المسيح مات في نيوزيلند متحرقا، لقد قصر عمره عبيد الأتراك، وعبيد الإنكليز، وعبيد فرنسا. - حدثني عن أنباء قتالك. - كثيرة، فلسطين مثلا، حاربنا سنة 36 وسنة 38، فرقة الزوبعة، قتل هناك سعيد العاص. - أكان سعيد العاص قوميا اجتماعيا؟ - بالطبع كان قوميا اجتماعيا، أنا الذي كرسته، كنا في فرقة واحدة، ولكننا لم نكن معا في المعركة التي قتل فيها. مات وشارة «الزوبعة» على صدره، وقد انتزعها ضابط بريطاني حملها إلى بيروت يفتخر بها، وقد هنأه يومئذ مواطنون أفاضل، اتهمونا فيما بعد أننا تحالفنا مع اليهود. بعض هؤلاء الأفاضل هم اليوم في بيروت، في مراكز السلطة والمال تحفل الجرائد بصورهم وأخبارهم ومواعظهم الوطنية. كان قائد فصيلي في فلسطين عبد الرحيم الحاج محمد. أذكر من الأبطال رفيقي بشير فلاحة «دمشقي»، وبشير الزعيم هو رئيس الأمن العام في اللاذقية اليوم، استشهد بعضنا في تلك المعارك - عشرة، اثنا عشر، لا أذكر، نحن لا نعد قتلانا. وبعد وقوف المعارك أردنا أن نقيم لشهدائنا حفلة في بيروت؛ فاعتقلنا الفرنساويون وحاكمونا وسجنوننا. - حدثني عن سرحمول سنة 1949. - كنا في سرحمول ثمانية. - قتل أحدكم - محمد ملاعب في تلك المعركة؟ - لا، لا، محمد ملاعب لم يقتل، إنه جرح في المعركة، ونقلوه إلى السجن مكبلا ودمه ينزف، وأحذية ثقيلة ضخمة تدوسه في الشاحنة وفي باحة الأسر.
وهنا خرس لسان جورج عبد المسيح؛ فسمعت صرير أضراسه تجرش الذكريات، ورأيت قذائف الكلام تطلقها عيناه لا شفتاه، ثم أردف متحرقا على محمد: في ساحة الأسر ضربوه وشتموه، وهناك رفع محمد ملاعب رأسه وضرب به الأرض، إن العشرات من مواطنينا رجال الدرك ما يزالون يروون المشهد الصارخ، كما يردده العشرات من رفقائنا، الذين كانوا يطلون آنذاك من وراء قضبان الحبس، إن القوميين الاجتماعيين كلهم يحسون في جباههم اليوم وإلى الأبد عزة جراح محمد ملاعب، وفي قلوبهم رجفة أرض بلاده حين هزها هذا الشهيد برأسه. - ما هي أكبر حسرة في حياتك؟ - هي أنني لم استشهد حتى اليوم، أريد أن أموت بالرصاص، متخبطا متضرجا بدمي، أريد أن أنشق فوح دمي، أريد أن أراها تشخب متفجرة من عروقي، وأن تطول ساعة احتضاري، وأن لا يغيب وعيي لأتمتع برؤية نفسي كيف تموت لتحيا سوريا.
وسألته: كنت أتوهم أن مقتل سعادة كان لك أكبر صدمة عاطفية؟ - عن أية صدمة عاطفية تتكلم؟
لم أفجع بالزعيم إلا كما يفجع الجندي بقائده، صرعته الخيانة في أوج المعركة، كنا - ولا نزال - في ذروة معركة إنقاذ هذه الأمة من مشعوذيها، من خونتها ولصوصها وطواغيتها، من مستغلي عمالها وفلاحيها وفقرائها وجهالها وضعفائها، من الذين اخترعوا المثالية وسيلة للأنانية؛ فتردوا بمسوح الأنبياء. أراد الزعيم ونريد، إنقاذ هذه الأمة من النظام، الذي صنف المواطنين طبقات، وطوائف، ووسم الشعب بميسم العبودية للأجنبي، ولعميل الأجنبي ولتجار الدين والوطنية. - من هم أعداؤك؟ - ليس لي عدو، وأنا فرد لا أهمية له إلا بمقدار ما ينتج، في سبيل حركة تعبر عن الحياة وعن عظمة هذه الأمة. والحركة أعداؤها أعداء هذه الأمة، ونحن نعتقد أن في كل مواطن خيرا أعتقته فيه حياة أمتنا، وأن حركتنا من مهماتها أن تكشف عن القوة والخير والجمال الكامنة في نفوس المواطنين. ليس لنا عدو، وكل من نفذ مبادينا فهو صديقنا، على أن يستحيل على فرد أن ينفذ كل مبادينا، ويفصح عن كل إيماننا إلا إذا انتظم وفعل. - أصحيح أن في نفسك حسرة لابتعادك ورفقائك عن لبنان، ولبقاء المساجين القوميين في الحبوس؟ - نحن لا نعرف من الحسرة إلا الحسد، حسد الرفيق للرفيق يسرت الحوادث لأحدهما شرف التضحية واستثنت الآخرز أما الابتعاد والسجن والموت والفقر والاضطهاد فكلها مخاطر توقعناها وتحديناها، عندما تجندنا لخدمة الأمة، وما لم نفطن له نبهنا الزعيم إليه بقوله: «إن آلاما عظيمة، آلاما لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبيرة منا.» يتوهم البعيدون عنا أن أيام صراعنا ولت، أقول لك: إن أيام الكفاح أمامنا لا خلفنا. اختبرنا الخونة والكذابين والدساسين، وعرفنا المغاور والسجون وميادين القتال. المبتعدون؟ أي مبتعدين؟ أما الذين منا عن لبنان مبتعدون، فمن هو في الكويت أو الموصل أو القامشلي؛ فهو في وطنه لا مغترب عنه، ومن هو عبر الحدود فهو معنا في الحركة، وأما الأسرى - أقول الأسرى - فلا نحن نلتاع عليهم، ولا هم يلتاعون، إنهم ينفذون واجبا عاديا؛ وليس أسفنا إلا بقدر حرمان هذه الأمة من إنتاجهم الكامل، غير أنهم هم ينتجون لحد ما، والإنتاج من تبشير، وتثقيف، وتقوية نفس، هو من فروض القومية الاجتماعية. - ما حالة الحركة القومية الاجتماعية في هذه الأيام - انتشارها وحيويتها وفعاليتها؟ - الحركة مثل كل حياة هي تنمو وهي تنتصر، وهي أبدا تمر في أزمات خلال صراعها. ولكننا منتصرون، ولقد فعلنا حتى في نفوس أعداء أمتنا؛ إذ أصبحت أساليبهم في مقاومتنا أقل خساسة، وفي بعض القطاعات اقتصرت المقاومة على الصراع الفكري، وهذا ما نحترمه ونريده.
ولسبب ما تراءى في خاطري جان جلخ، يحاضر في مطعم العجمي، وفيليب ضرغام خلف مذياعه تحت شجرة العدلية، وتصورتهما يقرأان هذا الحديث ويعلقان عليه؛ فهرعت أنتقل إلى موضوع سياسي مثير.
نامعلوم صفحہ