31
وابتغ ما هو أقوم وأسلم في كل قولك وعملك؛ فمثل هذا العزم كفيل بأن يحرر المرء من العناء والجهد والاضطرار إلى التحايل والرياء.
32
الكتاب الخامس
(5-1) في الصباح، عندما تجد نفسك غير راغب في القيام، قل لنفسك: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان، أما زلت كارها أن أذهب لكي أؤدي ما خلقت من أجله وما وجدت في العالم لكي أؤديه؟ أم تراني خلقت لكي ألف نفسي بالأغطية وأبقى دافئا؟ - «ولكن هذا أهنأ وألذ.» - أتراك إذن خلقت لكي تنعم باللذة من دون أي شيء من العمل والكد؟ ألا تنظر إلى الأشياء من حولك؛ النبت، والطير، والنمل، والعناكب، والنحل؛
1
كيف تسعى سويا، كل في عمله الخاص؛ لكي تحفظ نظام العالم، بينما تعرض أنت عن عملك ككائن إنساني، ولا تخف إلى أداء ما تقتضيه طبيعتك ذاتها؟ - «ولكن المرء بحاجة إلى الراحة أيضا.» - حقا إنه لبحاجة إلى الراحة، غير أن الطبيعة وضعت حدودا للراحة، مثلما وضعت حدودا للطعام والشراب، بينما أنت تتجاوز هذه الحدود، تتجاوز حاجتك. أما في الأعمال المنوطة بك فأنت تقصر عن الحد وتقف دون الحد الأدنى من قدراتك. إنك إذن كاره لنفسك؛ فلو كنت تحبها لأحببت طبيعتك وإملاءاتها. - «ولكن أولئك المحبين لصنائعهم يرهقون أنفسهم في أدائها فلا يغتسلون ولا يطعمون.» - ولكن اعتبارك لطبيعتك أدنى من اعتبار الحداد لحرفة الحدادة، والراقص لحرفة الرقص، ومحب المال لماله، ومحب الظهور لمجده الضئيل. على أن هؤلاء حين يأخذهم الحماس يتجافون عن الطعام والنوم حتى يتقنوا الأشياء التي يصبون إليها. أترى أنت أن العمل لصالح الجماعة هو أقل أهمية من هذا وأقل استحقاقا للجهد؟! (5-2) ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباع منغص أو عارض وتمحوه محوا، وتنعم للتو بلحظة حاضرة مفعمة بالراحة والسكينة.
2 (5-3) قل وافعل كل ما تقتضيه الطبيعة واعلم أنه ملائم لك أيضا، ولا يصرفك عنه ملام تتوقعه من الناس أو من كلامهم؛
3
فما دام الشيء خيرا فافعله أو قله ولا تستنكف من ذلك؛ فأولئك الناس إنما تحدوهم عقولهم وتسوقهم أهواؤهم. فلا تأبه لها وامض قدما في طريقك، متبعا طبيعتك الخاصة والطبيعة العامة؛ فطريق هاتين الطبيعتين واحد. (5-4) سأبقى سائرا في طريق الطبيعة حتى أسقط وأخلد إلى الراحة، فألفظ أنفاسي الأخيرة في هذا الهواء ذاته الذي تنفسته عبر أيام عمري، وأسقط على ذات الأرض التي منحت أبي بذرته ومنحت أمي دمها ومنحت مرضعتي لبنها، الأرض التي أطعمتني يوما بعد يوم وسقتني سنوات طوالا، الأرض التي احتملت وطأتي عليها واحتملت مني كل ضروب الإساءة. (5-5) تقول إنك تفتقر إلى حضور البديهة التي تنتزع به إعجاب الناس. حسن، ولكن هناك خصالا كثيرة لا يمكن أن تتذرع بأنها لا تدخل ضمن قدراتك الطبيعية، فلتطهر إذن تلك الفضائل التي هي في حوزتك بالكامل؛ الإخلاص، الوقار، الكد، إنكار الذات، الرضا، الإحسان، الصراحة، القناعة، الطيبة، الاستقلال، البساطة، التعقل، الشهامة. أرأيت كم من الفضائل بوسعك أن تأتيها ولا تتملص منها بحجة افتقاد الموهبة أو الملكة ثم ما تزال راضيا بأن تقصر فيها عن الحد؟ وهل حقيقة افتقادك الموهبة الفطرية تبيح لك أن تتذمر وتقتر وتتزلف وتنحي باللوم على جسدك وتتملق الناس وتتباهى وتوقع عقلك في هذا الاضطراب؟ كلا، بحق السماء، لعله كان بوسعك أن تتخلص من كل هذا منذ زمن طويل فلا تعاب، إن أعبت، إلا بالعي والفهاهة. وحتى هذان بمقدورك أن تعالجهما ما لم تستنم إلى العي وتستمرئ الفهاهة. (5-6) من الناس من إذا أسدى جميلا إلى شخص سارع بتسجيله في حسابه كدين مستحق. ومنهم من لا يسارع بذلك غير أنه يضمر في نفسه أن هذا الشخص مدين له ويعي جيدا بما فعله. وهناك صنف ثالث هو بمعنى ما لا يعي ما أتاه ولا يحشد له ذهنه، وإنما هو كالكرمة التي أهدت عناقيدها ولا ترتقب أي مقابل.
نامعلوم صفحہ