غير أنه في حالة الانطباعات المركبة التي تنطوي داخلها على حكم قيمة تتعقد الأمور ويصبح «التصديق» على الانطباع أمرا صعبا. يرى الرواقيون أن أغلب البشر بعيدون عن المعيار العقلاني للحكيم المثالي بعدا كبيرا؛ ومن ثم فمن المقدر عليهم أن يصدقوا على انطباعات زائفة. وينصحنا الرواقيون بأن نمارس أشد الاحتياط والتريث حين نقوم بالتصديق على انطباعات محملة بالقيمة
value-laden ، وأن نتوقف عن الحكم إذا كان ثمة ما يدعو إلى أقل شك.
منظومة القيم الرواقية، إذن، هي جوهر الفلسفة الرواقية ولباب العلاج الرواقي؛ فهي تقدم المعيار الذي تقيم به الانطباعات، وهي عرضة لسوء فهم كبير، وهي صادمة لتوقعات الناس، وحتى إذا أمكنهم فهمها بدقة فإن من الصعب على معظمهم قبولها. غير أنها النتيجة المنطقية لوجهة النظر الرواقية فيما يشكل الحياة السعيدة أو المزدهرة.
تتطلب الحياة السعيدة حصول الفرد دائما على الأشياء التي يتوق إليها، وتجنبه دائما للأشياء التي لا يريدها. إلى هنا يتفق الرواقيون مع غيرهم ويبدو الأمر من نوافل القول. تكمن المشكلة بالطبع في أن هذه الحال تستعصي على منالنا في أوقات كثيرة. قد أرغب في المال الوفير، أو الصحة الجيدة، ولكن قد يحول دون ذلك حوائل ليس لي بها يد. وبقدر ما يواتيني ما يسرني وينصرف عني ما يسوءني تحت رحمة مجموعة من العوامل الخارجية، ويجعل حياتي، في الأغلب الأعم، في تقلب انفعالي دائم.
والحل الرواقي لهذه المعضلة هو أن نقصر رغباتنا على تلك المجالات التي لدينا عليها سيطرة مطلقة. وبقدر ما تتقلص رغباتنا تتقلص معها فرصة إحباطها. وفي نهاية التحليل نجد أننا لا نملك، في الحقيقة، سلطة مطلقة إلا في مجال واحد، وهو مجال أفكارنا؛ كيف نحكم على الأمور، ما نفكر فيه، اعتقاداتنا ومواقفنا ... وباختصار: ما نفعله بالانطباعات، أو «استخدامنا للانطباعات» أو المظاهر على حد تعبير إبكتيتوس. غير أن قدرتنا على السيطرة على أحكامنا لا تمثل إلا نصف المعادلة، فإذا كانت أحكامنا خاطئة فأية فائدة وأي فرق في أن تكون تحت سيطرتنا. إن الحياة السعيدة ستفلت منا على أية حال.
يرى الرواقيون أن الاستخدام الصحيح للانطباعات يتطلب: (1) تقديرا صحيحا لصدق الانطباع. (2) تقديرا صحيحا لقيمة الانطباع. ويرون أن جميع الانطباعات أو المظاهر غير قادرة على منح السعادة ولا قادرة على منعها. إنها «لا فارقة»
indifferent
في هذا الشأن. وهكذا فحكمك بأن مرض شخص تحبه هو شر إنما هو حكم خاطئ، وحكمك بأن شفاءه خير هو حكم خاطئ بالمثل. يقول إبكتيتوس: «تعود منذ البداية أن تقول لكل انطباع مزعج: أنت انطباع، ولست الطريقة الوحيدة لرؤية الشيء الذي يعرض. ثم افحصه وقدره بمعيارك الذي لديك» (المحادثات: 1-3). ويصف الموقف الصحيح تجاه المظاهر أو الانطباعات في فقرة مأثورة يقول فيها : «ليست الأشياء ذاتها ما يكرب الناس، بل أحكامهم عن الأشياء. الموت مثلا ليس شيئا مريعا، وإلا لرآه سقراط أيضا كذلك، وإنما المريع جحا هو الحكم بأن الموت مريع؛ لذا فعندما ينتابنا الإحباط أو الاضطراب أو الحزن فإن علينا ألا نلوم غير أنفسنا، أعني غير أحكامنا نحن» (الموجز، 6). إصدار أحكام قيمية صائبة، إذن، هو الشطر الثاني من المعادلة في مسألة «الاستخدام الصحيح للانطباعات».
لإساءة الحكم على الانطباعات عواقب وخيمة، ليست مباشرة بالضرورة، وليست مقصورة على مجال الانفعالات. والنظرية الرواقية في ذلك أكثر عمقا وإحاطة من نظريات العلاج العقلاني والمعرفي. يرى إليس، على سبيل المثال، أن الانخراط في التفكير غير العقلاني من شأنه أن يورث انفعالات مفرطة وغير تكيفية، وأن هذه الانفعالات هي ما يشير إلى الحاجة إلى العلاج. من جهة أخرى قد يعتقد شخص بأن امتلاكه منزلا للاستجمام في العطلات هو «خير»، رغم أنه وفق المنظومة القيمية الرواقية شيء «غير فارق»
indifferent ، فما دام المنزل سليما فليس ثمة نتائج سلبية ناجمة عن هذا الحكم الخاطئ، ولا داعي للتدخل العلاجي في نظر المدارس السيكولوجية الحديثة بما فيها العلاج العقلاني الانفعالي. غير أن الرواقيين يرون رأيا آخر؛ إن إساءة الحكم ذاتها مرض، حتى لو لم تصحبه أعراض انفعالية؛ فالأمراض الانفعالية، إن وجدت، هي مجرد نتاج ثانوي للمرض. إنما تكون العادات المعرفية السلوكية اللاتكيفية، والتي هي النتاج المزمن للأحكام، هي ما يستحق التدخل العلاجي؛ فالأحكام الصائبة تربي عادات معرفية وسلوكية إيجابية، والعكس بالعكس.
نامعلوم صفحہ