تأمل یوماً بعد یوم: ٢٥ درساً للعیش بوعی کامل
تأمل يوما بعد يوم: ٢٥ درسا للعيش بوعي كامل
اصناف
هذا يرجع إلى أن هذه الخطوط الحلزونية المشاكسة، والمتطفلة والاستبدادية هي انعكاس لمجتمعنا الاستهلاكي الجبار والمتلألئ. وإنها لجاهزة لتنويمنا، ولاستعبادنا والتهام أذهاننا، إلا إذا استطعنا الانتباه إلى الزهرة، واستطعنا امتلاك وعينا كاملا.
أوه! كم أنا بحاجة للوحدة! لقد تسلقت الهضبة، عند الغروب؛ كي أرى خطوط الجبال في الأفق.
هنري ثورو، «مذكرات (أغسطس 1854)»
بلبلة وحيل
لا بد أننا نلوم كثيرا من الأشياء في عصرنا هذا. لكن علينا أن نعترف له بميزة مهمة، وهي أنه مثير للإعجاب، ويمتلك غنى لا يصدق. وهو مليء بالتغيرات، بالسرعة والتمازج. إنه يقدم لنا كثيرا من المتعة والإمكانات كما لم نعرف قبلا. كل ذلك بفضل أجيال سبقتنا. لكن ألا يخبئ كل هذا الغنى وكل هذه السرعة نوعا من الخطر؟! أليس من الممكن أن يخبئ كل ما هو متلألئ وبراق، كل ما هو مثير للاهتمام، والذي يشكل كل ما هو خارجي في يومياتنا؛ بؤسا في داخله؟ هذا ما يظنه الشعراء الكبار، الذين رأوا ولادة ونشوء عصرنا الحالي. يقول شتيفان تسفايك: «إن الظروف الجديدة لوجودنا تبعد البشر عن كل حالة تأمل، وترميهم خارج ذواتهم وهم في حالة من الغضب القاتل، كما في حرائق الغابة التي تطرد الحيوانات من عزلتها العميقة.» ويقول نيتشه: «أليست كل مؤسسات العصر تسعى إلى منع الناس من الشعور بحياتهم، بما تسببه من تشتيت لأفكارهم؟»
كي يستطيع وعينا أن يوجد ويتطور، علينا أن نحميه من عالم، مغذ ومنشط بالتأكيد، لكنه متطفل وسام.
تلوث الروح
هناك ما ندعوه بالتلوث الكيميائي؛ إنه ذلك الذي يلوث الطعام، والهواء والماء. وهناك أيضا التلوث النفسي ذلك الذي يصيب روحنا، ويتعدى على خصوصيتنا ويثير الاضطراب في توازننا الداخلي. العلامات الإرشادية، الإعلانات وغيرها من وسائل التلاعب التجاري بعقولنا. يوجد الآن كثير من الدراسات عن هذا التلوث النفسي الاستهلاكي، والذي من المعروف عنه الآن أنه يسبب العديد من النتائج الضارة المختلفة. إنه مثلا يخطف باستمرار انتباهنا، ووعينا، وحتى دواخلنا. فإلى أي حال ستئول روحنا بسبب هذا الاختلاس المستمر لانتباهنا؟ لقد صار انتباهنا سهل الالتقاط ويمكن جذبه وحتى تجزئته وتقطيعه. وصار في النهاية «مدمنا» لكل ما هو صاخب، ولامع وسهل؛ كل ما هو مهيأ ولا يحتاج إلى تفكير. وإلى أي حال ستئول روحنا بعد سرقة وعينا؟ إن ذهننا مليء بأفكار ومشاريع، وأشياء لا أهمية لها؛ إننا نقرأ دون توقف كل الإعلانات التي نصادفها في كل مكان، ونأخذ الخيارات دائما بين «الرخيص» و«الأرخص»، ونبذل جهدا للوصول إلى «صفقات» ترضينا لشراء هذا الغرض أو ذاك. ونملأ وعينا بالأخبار التي تدور حول ذاتها وتتكرر كل يوم. وإلى أي حال وصلت روحنا من شدة ما سرقت دواخلنا؟ إننا نغرق أكثر فأكثر في الملهيات الخارجية والمسرات الاستهلاكية، وفي الأنشطة الفارغة التي تملأ أذهاننا وأفعالنا. وكما أن الصمت ضروري كي يتم الاستماع إلى ما يقال، كذلك لا بد من مساحة ذهنية حرة كي يعبر وعينا ودواخلنا عن ذاتيهما. لكن مع الأسف فإن القرص الصلب لوعينا قد امتلأ بأشياء كثيرة غير مفيدة.
ولأن وعينا ودواخلنا هما شيء واحد، إذن، ما دمنا نسعى نحو ما هو خارجي وسطحي فإن وعينا سيضمر أكثر فأكثر. ومع هذا الاختلاس المستمر لانتباهنا ووعينا سيحدث اختلال في دواخلنا، وستغدو أفكارنا قصيرة المدى، وأكثر سطحية. يقول تيتسيانو تيرتساني: «في هذا العصر، أصبح كل شيء متطلبا لدرجة أن أذهاننا لا تستطيع أن تجد السلام؛ ضجة التلفزيون، صوت الراديو في السيارة، هاتفنا الذي يرن دون توقف، الإعلان المعلق على الحافلة التي تمر أمامنا. لم نعد نستطيع التعامل مع الأفكار على المدى الطويل، ولقد صارت أفكارنا شديدة الإيجاز من كثرة إيقافها في كل لحظة.» نعم صارت أفكارنا قصيرة المدى، كما أنها لم تعد تتجه نحو الداخل، وكأنها مسجونة خارجا في كل هذه البلبلة وهذه الانعكاسات في هذا العالم المصطنع. وببقائها خارجا تختفي مع الوقت أفكارنا الخاصة ولا تغدو سوى محتويات عقلية معلبة آتية من الخارج، ولا تغدو سوى صدى لهذا العالم الخالي من أي روح. كتب الأديب لوي رينيه دي فوريه يقول: «لا توجد أي علاقة بين الإفراط والعوز.» لكن في الحقيقة إن أرواحنا بصدد فقد خصوصيتها من كثرة ما تركت نفسها تمتلئ من الصخب الخارجي الفارغ.
وهكذا عندما نحاول أن نفكر بأنفسنا؛ أي، أن نمارس الاستبطان الداخلي، ونحن في هدوء تام وصمت تام، في حالة من الاستمرارية، لا ننجح. وربما يكون الأمر أكثر سوءا؛ فقد فقدنا هذه القدرة (أو أننا لم نمتلكها قط). عندها يظهر القلق والملل، وتعود الاجترارات الخاصة بالقلق التي تدور حول نفسها دون فائدة؛ لهذا فإننا نحاول الخروج فورا من دواخلنا باتجاه البلبلة الخارجية والانشغال المهدئ. إننا في الحقيقة مصابون بخلل عام في القدرة على التواصل مع دواخلنا لأن مجتمعنا ينقصه كل ما يدعم هذا الاستبطان الداخلي. إننا في حالة عوز.
نامعلوم صفحہ