بريقه على كفه وأعاده من حفظه، والمعرّي لمّا سمع أرمنيَّيْن يتحاسبان بلغتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه! والأصمعي وحمّاد الراوية وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار ... (١) والمئات من أمثال هؤلاء، فتعجبون. ولو فكّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كل منكم من أسماء الناس والبلدان والصحف والمجلات والأغاني والنكات والمطاعم والمشارب، وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ، وكم يشغل من ذهنه ما يمر به كل يوم من المقروءات والمرئيات والمسموعات، فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا لكان مثلَ هؤلاء الذين ذكرت.
أعرف نادلًا كان في قهوة فاروق في الشام من عشرين سنة اسمه حلمي، يدور على رُوّاد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة أو شايًا أو هاضومًا (كازوزة) أو ليمونًا، والقهوة حلوة ومُرّة، والشاي أحمر وأخضر، والكازوزة أنواع، ثم يقوم وسط القهوة يردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَس واحد، ثم يجيء بها فما يخرم مما طلب أحدٌ حرفًا!
* * *
فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كل ذلك مال، وكل ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد. ومِلاك الأمر كله
_________
(١) اقرأ هذه الحكايات اللطيفة في مقالة «المطالعة» (في كتاب «فصول في الثقافة والأدب»)، ص ١٨٤ وما بعدها (مجاهد).
1 / 25