ما زال أمامي ساعة كاملة للوصول لكورنيش المعادي، تلفت حولي لأعرف الاتجاهات مرة أخرى، سأعود مرة أخرى وأمر بجوار نادي هليوبوليس، ثم بيت الرئاسة، وأنحرف لليمين، وأصعد كوبري السادس من أكتوبر ... أدرت السيارة وانطلقت بهدوء أبحث عن صوت فيروز؛ فهو أكثر ما أحتاج إليه الآن، «بعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا سهرة تشرين، يا دهب الغالي.»
أزاحت حجرا جاثيا من على صدري تلك الفيروز، وأخذت أغني معها وأنا أتحرك بالسيارة ببطء، أعبر بين بيت الرئاسة والقصر الجمهوري، ابتسمت لنظرات الحرس الرئاسي المرتابة في منظر السيارة ولم أتوقف عن الغناء، لكني عند المنحنى شعرت أن كل لجان المرور بالعاصمة ستلاحقني، سيارة قديمة مهشمة الزجاج الأمامي، يقودها رجل في أول الأربعينيات في شهر فبراير بقميص مفتوح ... كدت أنفجر من الضحك.
رغم الزحام الشديد من مخرج نفق العروبة، ومرورا بالصالة المكشوفة، وبانوراما حرب أكتوبر، وأرض المعارض، «نفسي اتفرج على بانوراما أكتوبر دي»، هكذا همست لنفسي؛ مهندس معماري ويعمل بالسينما، ولم يزر بانوراما حرب أكتوبر من قبل! عقدت حاجبي قليلا وأنا أعتلي كوبري السادس من أكتوبر الذي لا يعني الكثير، حتى رؤية مئذنتي مسجد النور بالعباسية لتبدأ سلسلة بانورامية لشارع رمسيس، وكلما اقتربت من غمرة أنظر لليسار، لأستمتع بمدرسة القلب المقدس، أحب جميع تفاصيلها، حتى المباني المستحدثة بها رائعة، وفتياتها بالتنورة المربعات الكحلية في الأزرق في الأبيض والقميص السماوي، أتذكر «سعاد حسني» وفيلم صغيرة على الحب، أستمر في متعتي الوحيدة أثناء الزحام.
الهواء البارد يضايقني؛ يشعرني بمقدمة احتقان لجيوبي الأنفية، «منك لله يا توحة ...» نفثتها مبتسما، مجنونة هي، لكنها جميلة، حاولت إغلاق قميصي قدر الإمكان «الله عليكي يا فيروز»، جااااااءت معذبتي، بغيهب الغسق.
تشاء الحتمية القدرية اليومية التوقف التام بين مسجد الفتح ومحطة مصر التي تفتقر تماما لتمثال رمسيس الثاني، الذي تم نقله للمتحف المصري الكبير، وكأن تلك البقعة من الكوبري هي بوابة العبور أو الانتقال من قاهرة لقاهرة أخرى، ونقف الآن على الحدود لتهب بي نسمة باردة رطبة بعض الشيء، لألتفت يميني على سيارة إنجليزية فارهة بغطاء مكشوف، عقدت حاجبي لفكرة كشف سقف السيارة في هذا الجو، حتى وقعت عيناي على مقودها الممسك بأصابع لم تتعرض أظافرها سوى للتقليم والرعاية طوال حياتها، لا أعتقد أن هذه الأيادي قد غسلت أي أطباق قط، أو حتى غسلت نفسها؛ فتلك الأيادي يبدو أنها تغتسل بحليب الماعز، ابتسمت لطلاء الأظافر الأحمر القاني، ورغم أنني لم ألتفت بعد لصاحبة الأصابع الحليبية، فإن الفارق واضح بينها وبين «توحة»، حاولت اختلاس النظر دون أن أحرك رأسي لتفاجئني ابتسامة جعلتني ألتفت برأسي ورقبتي ناحية هاتين الشفتين، لا أعرف كيف هبت رياح برية مشبعة برائحة التوت البري، والفراولة، والكرز، فأكاد أغمض عيني. لم أر عينيها، أميرة الغابات تلك، فكانت ترتدي نظارة شمسية تغطي نصف وجهها، لكن ما ظهر منه يبشر بالكثير، شعرت بأني في عجلة من أمري، وكأنني لص تلاحقه الشرطة، أحاول سرقة كل ما تصله عيناي دون تدقيق لأقوم بفرز السرقة في وكري السري، فرمقتها بنظرة فوتوغرافية سريعة، لم أبتسم حتى لابتسامتها المربكة، فلم أعرف أكانت لي، أم مجرد استهزاء بسيارتي المضحكة، أو ربما شفقة بكلينا، رفعت صوت فيروز قليلا متظاهرا بالاستغراق في الحالة الفيروزية، محركا شفتي دون أن أسمع أي شيء، فرأيت حورية الغابات تضحك، واضعة أناملها الدقيقة على ثغرها، فلم أفهم السبب حتى تحركت السيارات بالفعل، تحركنا جميعا سويا لكن قدرتها على الإفلات من الزحام كانت مميزة، ربما لا تقف تلك السيارات في الزحام، أجد عذرا شرعيا لكل من يلمحها في مرآة سيارته ويفسح لها الطريق، مهما كلفه الأمر من قطع طريق على سيارة مجاورة، أو التسبب في حوادث مريعة؛ فكل ما يتلبسه هو الإفساح لملائكة الرحمة بالمرور، فربما ستنقذ تلك الحورية ملايين الأرواح، أو ربما ستحصدها.
انفجرت في الضحك؛ فقد عرفت لماذا ضحكت الحورية؛ فقد كانت فيروز تردد «نادي لك يا حبيبي ما بتسمع لي ندا ...» وددت لو ارتديت قبعة لأرفعها للست فيروز، منقذتي دائما.
مررت بمستشفى السكة الحديد، ومبنى الأهرام، ونقابة المهندسين، وجمعية المهندسين بمبناها العريق، الذي يشبه من الأمام الطراز المملوكي، ومن الخلف عمارة المنمنمات الكنسية، ومع اقترابي من منزل ميدان التحرير، حاولت اختلاس النظر لغنيمتي التي ظفرت بها عند الحدود؛ امرأة في أواخر الثلاثينيات أو أوائل الأربعينيات؛ فنضارتها قد تخدع أعظم خبراء الجواهر؛ شعرها أسود قاتم تتخلله خصلات فضية اللون، كخيوط من النجوم الفضية تلمع في سواد الليل، شعرها كان طويلا؛ فما ارتاح منه على كتفها الأيسر كان يصل لفخذها، بشرتها بيضاء رخامية بلون الحليب الرائق، لمحت أيضا بنطالا جلديا أسود ضيقا؛ تبدو ممشوقة القوام طويلة العظام، يغطي صدرها قميص مجسم أبيض اللون، يظهر فقط ترقوتها، وسترة جلدية سوداء، تشبه السيدة القطة في الرجل الخفاش، جعلتني أتمنى لو كنت خفاشا، وتساءلت كم يكلفني قيادتها، لم أحاول أن أفصح لنفسي أكنت أقصد السيارة الفارهة أم الحورية الفارهة أيضا ... ابتسمت.
حمدت الله أنني لم أتجاوز المنزل، نزلت متدحرجا بسيارتي الحجرية، المهشمة، المحترقة، الجميلة، لأبتسم تحية للمتحف المصري، البديع مبناه الكولوني العريق، يعجبني كثيرا ثقته بنفسه، واسترخاؤه بقوة جاعلا حداثة مبنى هيلتون النيل، وأندلسية جامعة الدول العربية، مجرد خلفية متعادلة لعضلاته القوية الممسكة بميدان التحرير، حتى مبنى المجمع الأرت ديكو الفريد، الذي أشعره قد بلع مبنى وزارة الخارجية القديم، وزخارفه الباروكية الرائعة، استمر زحفي بجوار المجمع متخطيا مسجد عمر مكرم مجاهدا للوصول للكورنيش، وأخيرا اعتدلت موازيا لكورنيش النيل متجها لمطلع الكوبري الدائري باتجاه المعادي.
رغم ما أشعر به من برودة حادة داخل أنفي، فإنني لم أستطع مقاومة طقسي التقليدي بملء رئتي من هواء النيل، وابتسمت أثناء مروري بفندق جراند حياة، وبسفارة إيطاليا، وتذكرت كيف أعجبني ظهورها في مسلسل فارس بلا جواد. اقتربت الآن كثيرا من المكان المنشود، والآن يجب أن أطيل قليلا وأعاود أدراجي لأتوقف بجوار منزل الكوبري باتجاه ميدان التحرير مرة أخرى، وبالفعل وقفت قبل المنزل وأطفأت السيارة.
اقترب من السيارة مندوب شرطة، أو أمين شرطة، فلم أكن أعرف الفرق، جاء مبتسما، لافتا نظري أن الانتظار ممنوع في تلك البقعة، فبادلته ابتسامة مماثلة قائلا: إن ذلك ممنوع على السيارات، وما أقوده أبعد ما يكون عن كونه سيارة، فضحك قائلا إنني أستحق سحب السيارة، بسبب مخالفة الأمن والمتانة و... و... فقاطعته أن الرخصة أيضا منتهية منذ زمن غير معلوم، ونزلت من السيارة، وأعطيته سيجارة وأخذنا ندخن سويا، ونتجاذب أطراف الحديث، وأعتقد أننا صرنا أصدقاء إلى حد بعيد، وحكيت له أنني في انتظار السيارة المحملة بالمناظر الخشبية، والشيء الوحيد السليم معي هو تصريح مرور تلك السيارة في وسط العاصمة، موقعا من حكمدار مرور القاهرة، فشعر أنني شخصية مهمة رغما عنه، فلم يكن يبدو علي أي أهمية، فنصحني بعدم السير بسيارتي في وسط البلد؛ فحتما سيتم سحب السيارة. بدا لي كلامه مقنعا فطرأت لي فكرة، سألته عن اسمه فأجاب: «محسوبك عصام.» فسألته عن انتهاء ورديته، فأفهمني أن الموضوع يمكن تنسيقه لو: «سعادتي محتاج أي خدمة»، فعرضت عليه أن يحضر التصوير معنا، ثم نتعشى سويا بعدها، تهللت أساريره من فكرة حضور التصوير أمام قصر عابدين، لكنه حاول إخفاء سعادته باعتذارات همهمة غير مفهومة، فأصررت أن يكون ضيف التصوير اليوم، وهكذا صرت محميا بصديقي الجديد «عصام» من أنياب رجال المرور.
نامعلوم صفحہ