ليلة العيد بعيدا عن عيون الإمام يهبطون إلى النهر ويشربون إلى حد فقدان الوعي، ثم ينهضون وقد عاد إليهم الوعي، يندمون، يطلبون المغفرة. يعفو عنهم الإمام ليلة العيد الكبير. تفتح أبواب السجون والمعتقلات، يخرج منها الموتى وشهداء الحرب والإشعاع والمرجومات والمقطوعو الأيدي والأرجل من خلاف، ويأتي دورها لتخرج إلى الحرية، لكن عيون الإمام تلمحها. تجري هاربة في الظلمة ومن خلفها كلبها، تكاد تفلت قبل طلوع الفجر لكن الطعنة تصيبها في ظهرها. قبل أن تسقط تتساءل: لماذا تتركون الجاني وتذبحون الضحية؟! وتتلاشى الأصوات، ويصبح عقلها بلون الظلام، وذاكرتها سوداء أو بيضاء بلا حرف إلا اسم أمها.
لا يعرفون القراءة
الظلمة داكنة، لا شمس ولا قمر، لا يعرفون هل هو الليل أم نهار مظلم في غابة كثيفة الشجر، ضوء خافت ينفذ يشبه الكشاف في يد الخفير أو رئيس الأمن. في الضوء يرون الجسم يركض جريا، يدركون من حركة الجري فوق ساقين اثنتين أنها إنسان وليست من ذوات الأربع، يرون أنها امرأة وليست رجلا؛ نهدان بارزان منتصبان فوق الصدر، شابة في أول الشباب، عظامها صغيرة، وبشرتها ناعمة كبشرة الأطفال، سمراء بلون طمي النهر، طويلة الوجه مسحوبة العينين كالإلهات القديمة، عيناها واسعتان والنني أسود كعين الليل، قدماها صغيرتان حافيتان لا تكفان عن الجري، يدها اليمنى تمسك شيئا طويلا يشبه الغصن، عارية كما ولدتها أمها، عورتها مختفية في الظلمة تحت ليل أسود أو ورقة داكنة الخضرة، جسمها يلمع في الضوء وهي تجري كالسمكة تشق الكون نصفين، وميض برق يظهر ثم يعود الليل كما كان، تختفي هي وكلبها وتكاد تفلت.
لكن الظلمة تنشق عن فرقة من عيون الإمام يتقدمهم رئيس الأمن، طابور من الرجال أجسامهم ضخمة يغطيها الشعر، يمسك كل منهم في يده اليمنى قطعة حجر أو آلة قتل مدببة، يجرون في إثر البنت. هي أقدر منهم على الجري، هي أدرى منهم بأسرار المكان، المكان مكانها حيث ولدت وحيث ماتت.
كادت تفلت لولا أنها توقفت تملأ صدرها بهواء المكان.
لم تطل دهشتي حين توقفت لأول مرة بعد الهزيمة في الحرب الأخيرة، منذ ماتت أمي، في منعطف طلعة الهضبة بين البحر والنهر، في الطريق من البيت إلى الجبهة، فلتت مني شهقة حين صعدت الهضبة، سقط الغصن من يدي وارتج قلبي، وهتفت بأختي التي كنت أعلم أنها قادمة بعدي. عشرون عاما منذ ولدت وأنا أحلم بهذه الطلعة، رائحة الهواء لم تغب عن ذاكرتي، أتذكر كل منعطف في الأرض، وهذه النخلات الثلاث، وشجرة الجميز، والهضبة فوق الوادي الأخضر، وهواء البحر. إنني أستنشق رائحة أمي. هذه الأرض وطني.
كادت تفلت لولا أنها توقفت لتملأ صدرها برائحة حياتها. أصابتها الطلقة في ظهرها. نفذت كالسهم من الظهر إلى القلب. سقطت إلى الأرض تنزف وإلى جوارها كلبها. فزعت العصافير وملأت صيحاتها الكون. ارتفع صياح الديكة والغربان. والحمير صعد نهيقها في السماء. شاركت الكلاب النباح. كان الفجر على وشك الطلوع. نهض رجال يرتدون جلاليب بيضاء ولحى طويلة سوداء. ركبوا مكبرات الصوت فوق المنارات، والقباب تتدلى منها أسلاك الكهرباء، وانطلق الصوت كالرعد يحث الناس على الصلاة ومبايعة الإمام ، ثم انقطع الصوت فجأة بانقطاع التيار الكهربائي. عاد الهدوء والصمت وظل الناس نياما، انتهت الجريمة في الظلام لم يشهدها أحد، لكن الكون شهدها والأشجار والهضبة بين البحر والنهر. ظلت محفوظة في قلب صخرة في بطن الأرض، العام وراء العام. ظلت تعيش على شكل صخرة وإلى جوارها كلبها، تحجر الجسم الحي (هذه حقيقة علمية. وفي التاريخ عاش أهل الكهف مع كلبهم في بطن الأرض ثلاثمائة عام).
لكنها بنت وحيدة وليس معها رفيق إلا كلبها (وأخوات قادمات من بعد)، والكون يشبه الكون الذي نعيش فيه اليوم، السماء والأرض والشجر والبيوت والنهر والبحر، قلت: أهو البحر الأبيض المتوسط، أهو نهر النيل؟ قالوا: الأسماء هنا تختلف، والزمن يختلف، لكن المكان واحد، والشمس واحدة، وسنابل القمح واحدة، والجاموسة سوداء البشرة لها أربع أرجل، أراها من بعيد وهي تهبط إلى النهر، تسبح في الماء وظهرها يلمع تحت أشعة الشمس، تغمض عينيها في راحة واستمتاع، تخرج من النهر تتمشى في استرخاء، تقف عند حقل البرسيم وتأكل، تمضغ على مهل وتهز ذيلها، ترهف أذنيها لصرير الساقية وترمق المرأة المربوطة بالحبل وعيناها معصوبتان، تدور مع الساقية ومن خلفها رجل في يده عصا من الخيزران، يلسعها على ردفيها كلما توقفت، أفلتت مني الشهقة كالدهشة، المرأة تدور في الساقية والجاموسة تتنزه. قالوا: القانون هنا العرض والطلب، ثمن الجاموسة في السوق أغلى من ثمن المرأة، يملك الرجل أربع نساء وليس له إلا جاموسة واحدة، والحقول الخضراء ممتدة كالشريط الطويل بحذاء النهر، طابور من الجاموس يسبح تحت الشمس، من وراء الشريط الأخضر الصحراء ثم جبل الرمال الأصفر، إذا ذهبت ناحية الهضبة هناك قطاع الطرق، الضبع والنسر كلاهما لا يأكل إلا الميت، لا يأكل اللحم الحي إلا ابن آدم، النمور تأكل الغزلان وتأنف لحم الإنسان. لحم الغزلان نادر، ولحم بني آدم كثير بلا عدد. التماسيح خائنة، والثعابين ملتوية ناعمة من السطح وسمها قاتل. لا يعرف الوفاء هنا إلا الكلاب. والظلمة لا تزال داكنة. حشرات على شكل بعوض أو جراد أو فئران. زواحف وكائنات تجري فوق أربع أرجل. أين الناس؟ لا أرى أحدا. البنت المقتولة اختفت، والقتلة اختفوا أيضا. قلت: ألا يوجد هنا بشر؟ قالوا: البشر هنا بالملايين، كالهوام في الجو، لا ترينهم بالعين المجردة. يعيشون في كهوف في بطن الأرض، بيوت على شكل قبور، يخافون الضوء، يتصورون أنه النار. يخافون شعاع الشمس، يظنون أنه الإشعاع النووي، شر قادم من وراء البحار، ترسله القوى العظمى في لبن الأطفال، أو غضب من عند الله، ولماذا يغضب عليهم الله؟ لا أحد يعرف. لا يعرفون جريمتهم. لا يعرفون كلمة الله؛ فهي كلمة مكتوبة، وهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا الكلمات، مجرد همهمات أو صيحات أو هتاف أو صراخ. قلت: ألا يمكن الحديث إليهم؟ قالوا: نعم، إذا عرفت لغتهم، وإذا ارتديت زي رجل أو أخفيت عورتك وراء حجاب. قلت بدهشة: أي عورة وأنا أرتدي ملابسي كاملة؟ وأشاروا بأصابعهم المدببة إلى وجهي. أصابني ذعر، وارتج لساني، قلت: من قال لكم هذا؟ قالوا: إنها كلمة الله. قلت: كلمة الله مكتوبة وأنتم لا تعرفون القراءة، فكيف عرفتم كلمة الله؟ سكتوا طويلا، نظر بعضهم للبعض، رفعوا عيونهم نحو السماء، أشاروا إلى الصورة المعلقة فوق قوس النصر. قلت: من هو؟ شهقوا بدهشة: ألا تعرفينه؟ صورته معلقة في كل مكان؛ في الشوارع، على الجدران، في الدكاكين، فوق أقواس النصر، اسمه «الإمام»، وهو في كل مكان. قلت: من يكون في كل مكان لا يكون في أي مكان. قالوا: بايعناه مدى الحياة، سيدنا الإمام رأى الله وعرف كلمته. قلت: وأين رأى الإمام الله؟ قالوا: زاره الله في المنام.
نداء الأم
في طفولتي وأنا نائمة كان الله يزورني، وله صوت حنون كصوت أمي. وحين سمعت دوي الطلقات ورأيت صورة الإمام تسقط بدأت أجري. لم أكن أخاف الموت؛ فالموت أمره سهل إذا حدث في لحظة خاطفة؛ فصل الرأس عن العنق بضربة سيف، اختراق الرصاصة القلب بطلقة واحدة. أما الموت البطيء فهو الرعب الحقيقي؛ يربطونني بالحبال داخل حفرة في الأرض، يقذفونني بالحجارة حجرا وراء حجر، يوما وراء يوم، خمسين يوما أو مائة أو ألفا، وإن مات جسمي فلن تستسلم روحي. يرهقهم الرجم بالأحجار قبل أن أموت، تنزف أيديهم الدم قبل أن تفرغ شراييني، تمتص روحي ذرات التراب والرمل، يتحول جسدي إلى صخرة يرتد عنها الحجر. ومن بعيد أرى الصخرة منتصبة فوق الهضبة بين البحر والنهر، واقفة في الظلمة تنتظرني، منذ ولدتني وهي واقفة تنتظرني، عشرون عاما وهي لا تزال منتصبة وظهرها مرفوع، صوتها كالهمس، كحفيف الهواء والشجر، كالنداء الخافت ينبعث من بطن الأرض: بنت الله، تعالي. كانوا يسمونني بنت الله، وكلبي اسمه مرزوق، رافقني منذ ولدتني أمي، ظل معي حتى النهاية، لا يعرف القراءة ولا الكتابة، لم يقرأ كلمة الله، لكنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة، يعرف أنني بريئة من دم الإمام. وكيف أقتله وهو أبي المجهول، ولولاه (بالإضافة إلى أمي المجهولة) ما كان وجودي؟ لم يعرف أحد أنني ابنته إلا أمي ومرزوق. رآها وهي راكعة فوق الأرض تنشج ببكاء مكتوم، ورآه وهو يخرج هاربا في الظلمة. عرف وجهه وحفظ ملامحه، أصبح كلما رأى صورته معلقة في الجو ينبح بصوت عال. لم يفهم الناس نباحه؛ فالناس لا تعرف لغة الكلاب، لكن الكلاب تفهم لغة البشر، ولها مثل البشر ذاكرة تحفظ التاريخ. وظل مرزوق يحفظ شكله وهو يخرج هاربا. جرى خلفه وأمسكه من الخلف. مزق سرواله من فوق الإلية اليسرى، واستقرت قطعة من القماش الدمور بين نابيه. لونها كاكي كملابس عساكر الجيش، ورائحتها عرق وعطر رخيص. ترك القطعة وراءه وانطلق يجري خائفا من الكلب، قدماه وهو يجري لهما وقع مسموع، في كعب حذائه حدوة من الحديد. لم يكف عن الجري ووجهه نحو السماء، أمله في الله كبير، انصرني يا رب على أعدائي وحقق لي آمالي. عيناه الجاحظتان مملوءتان بالآمال العريضة. شفتاه سميكتان فيهما نهم لامتلاك الكون. عرش في السماء وعرش في الأرض. قصر يطل على البحر في الصيف، وقصر الشتاء في الجنوب، وقصر في الجنة تجري من تحته الأنهار وغلمان وحور. طرف لسانه جاف وظمؤه شديد. فمه مفتوح يلهث ويجري بلا توقف . حرمانه قديم منذ الطفولة لا يهدأ، ورغبة الامتلاك كالمرض المزمن لا تشبع، والأمل في الله بغير حدود. علامة الإيمان فوق جبهته دائرة محفورة مرسومة، في يده اليمنى مسبحة حباتها صفراء، فوق ردفه الأيمن الجراب الطويل داخله السيف، يده اليسرى فوق الردف الأيسر تخفي الثقب في السروال.
نامعلوم صفحہ