سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
اصناف
لم يحدثنا أحد حديثا مفصلا عن شباب سقراط، ومن الواضح أنه لم تكن له لدى الجمهور ما كان لصديقه العارض ألقبيادس من أهمية، ويبدو أنه قضى أيام شبابه - كما قضى كل أيام حياته - في مجرد النمو، فلسبعين عاما كان ينمو فحسب كغيره من الناس إلا أنه أحسن استغلال حياته، نما سقراط وسط الأسمال البالية من ضروب التفكير التي كانت تسود عصره، وإذا كانت للناس من بعده طريقة للتفكير أفضل من الطرق التي سبقتها، طريقة يستطيعون أن يستخدموها إذا شاءوا، فإن الفضل فيها - إلى حد كبير - يرجع إلى سقراط.
ومن ثم كان من المفيد أن نحاول فهم نمو سقراط، حتى إذا قامت بيننا وبين الحقيقة كثير من العوائق والظلمات، إن سقراط نفسه لم يكتب شيئا قط، ولم تكن الكتابة طريقته، غير أن أصدقاءه في سنواته الأخيرة قد كتبوا شيئا عنه، وبخاصة صديقه الموهوب وتلميذه الفيلسوف أفلاطون، ولا يمكن لأحد أن يقرأ محاورات أفلاطون المسرحية عن أستاذه دون أن يحس أن فيها شخصية حقيقية قد تكون إلى حد ما شخصية سقراط، أو هي محبة أفلاطون لسقراط، أو هي إلى حد ما أفلاطون نفسه، موضع الحيرة من قديم، ولقد حاولت أن أستبعد ما استطعت من آراء أفلاطون الخاصة به فلم أضمنها هذا الكتاب، غير أننا لا نجد اليوم من يخلص سقراط من محبة أصدقائه له، وليس هنا في الحقيقة ما يدعونا إلى هذه المحاولة.
وعطفنا على سقراط مجال آخر للخلط، وهو أقرب رجل في العالم الوثني القديم إلى أن نحشره في زمرتنا متجاهلين التطورات التي طرأت في القرون الأربعة والعشرين التي تفصل بيننا وبينه، إن ألفاظنا تحمل معاني مسيحية، سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه، ومن اليسير لنا أن نلتمس معنى مسيحيا في ألفاظ سقراط كذلك، بيد أن هذا ضرب من ضروب الاضطراب في التفكير ، ولقد كان سقراط أشد مقتا لهذا الاضطراب من أكثر الناس، وإنه ليود أن نفهم ألفاظه اليوم كما فهمها أصدقاؤه في زمنه.
وإذن فإن الشباب من أصدقاء سقراط - أفلاطون خاصة وكذلك زنفون الجندي الصحافي - قد قدموا لنا الرجل الواسع الحكمة، المسن الذي جاوز الستين، الذي أحبوه حينما كانوا في العقد الثالث من أعمارهم، أما سقراط الآخر، سقراط في دور النمو، الذي نحتاج إلى معرفته الجندي المتوسط العمر والشاب الدارس والصبي والطفل؛ أما هذا فإنه يتراجع تدريجا إلى أبعد مما كانوا يرون، وإلى أكثر بعدا مما نرى.
ولا نستطيع أن نقول في البداية إلا أن طفلا قد ولد، وكان ذلك حوالي عام 470ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تدعى فيناريتي وأبوه يدعى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي - كما يذكر ابنها فيما بعد - سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان - على الأرجح - صانعا، والظاهر أن الرجل المهذب أفلاطون قد أشار إلى ذلك مرة بلباقة، وقد روى فيما بعد صراحة أن أباه كان نحاتا، وأن الابن قد أخذ عن أبيه حرفته، ومهما يكن من شيء فقد كان ذلك متوقعا منذ اللحظة التي شب فيها الصبي عن طوق الطفولة.
وإذن فقد كان هناك سفرونسكس النحات، واقفا إلى جوار سرير زوجته، ينظر إلى يدي ابنه الوليد الجديد ويرى فيهما بذرة الصناعة، ولو عرف الحق لأدرك أنه كان طوال الوقت أبا لفيلسوف.
وبطبيعة الحال لم يتم في الواقع مولد سقراط الفيلسوف إلا فيما بعد، وأقصد المولد التدريجي للآراء التي علمته بدوره أن يعين غيره من الشباب على مولد جديد كمولده، ولن نعرف أبدا حقيقة الوقت أو السبب أو الطريقة التي بدأت بها ولادة هذه الأفكار عند سقراط، ولا نستطيع إلا أن نسير في الاتجاه العام للحقيقة - كما فعل أفلاطون - ثم نخلق من هذا الاتجاه أسطورة.
الفصل الأول
أقريطون يروي البداية
[نعود إلى أثينا القديمة، قبل أربعة وعشرين قرنا؛ أي منذ أكثر من أربعة قرون ونصف قبل ميلاد المسيح، حينما كانت روما مدينة ريفية تافهة، وحينما كانت إنجلترا أسطورة من أساطير الملاحين، وأمريكا قارة في سبات عميق، والعالم الغربي يتطلع إلى بلاد اليونان.
نامعلوم صفحہ