سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
اصناف
وفي هذه الحملة رفع ألقبيادس سمعته كجندي، وقد وقع عليه الاختيار من بين صفوف الجيش كله لكي يتسلم جائزة الشجاعة ، ولو أنه أصر على أنها من حق سقراط الذي وقف إلى جواره وأنقذه عندما أصيب بالجراح، وكانت الجائزة شرفا عظيما، وكانت أثينا لا تزال تذكر قريبا له لشيء مثل هذا يعود إلى حروب الفرس، ومما زاد من دهشة الناس الذين عرفوا ألقبيادس في وطنه الطريقة التي سلكها في الخضوع لنظم الجيش، فقد كان يسير ويجوع ويقاسي زمهرير البرد ويقف في حراسته كغيره من الجند، دون أن يكون في ذلك متكلفا ودون أن يتوقع الجزاء، وربما كان يعرف ما يدعو إلى الإعجاب في الجيش، أو ربما استطاع أن يأخذ نفسه بالطاعة بمعونة سقراط.
وهكذا قضى ألقبيادس وسقراط عامهما معا، وكان ذلك هو الوقت الذي توثقت بينهما فيه الصداقة إلى أقصى حدودها، ولما تصرم العام عادا إلى أثينا، حيث يمارس سقراط عمله العام مطيعا في ذلك ربه، وحيث يرتد ألقبيادس إلى السياسة، وبرغم سمعة ألقبيادس الطيبة في الجيش، فإن الفارق بينهما الآن أمسى أكبر من أي عهد مضى، ولما عاد ألقبيادس إلى السياسة بدأ يتأكد بينه وبين نفسه مما كان يتوقعه طوال الوقت الماضي، وذلك أنه لن ينتسب إلى مدينة سقراط، غير أنه ما لبث يحبها كلما أدركها خلال صديقه، أما عن نفسه فإنه في الواقع لم يرد أن يدفع الثمن.
وبعد نحو خمسة عشر عاما - كما يحدثنا أفلاطون - أقيم في أثينا بمنزل الشاعر أجاثون حفل عشاء كبير، وكان أجاثون قد ظفر من عهد قريب بجائزة على أولى مسرحياته، وأقام العشاء احتفالا بفوزه، وكان الحافلون من الممتازين، من بينهم: أرستوفان كاتب المسرحيات الهزلية، وأرستوديمس صديق سقراط، الذي روى القصة فيما بعد وسقراط ذاته، ولم يدع للحفل ألقبيادس، وكان قائدا في الجيش وسياسيا متزعما، ولم يكن عنده أقل من سبع مجموعات من خيل السباق، كل مجموعة منها تتألف من أربعة جياد، يدربها للألعاب الأولمبية القادمة، غير أنه تحاشى الالتقاء بسقراط.
ولم يغن الضيوف أو يلعبوا أو يشهدوا العبيد في تمثيلهم بعد حفل العشاء عند أجاثون، كما لو فعلوا في منزل آخر، إنما كانت تلك وليمة لرجال الأدب والمفكرين، فانصرف لاعبو المزامير ودار بين المجتمعين حديث رفيع، وكان الحب موضوع المساء، وألقى كل منهم حديثه بشأنه، فكها كان أو علميا أو شاعريا وفقا لمهنته وأسلوبه في التفكير.
ولم يكد سقراط ينتهي من حديثه عن الحب كما عرفه - الحب بين الأصدقاء الذي يؤدي كدرجات السلم إلى نظرات جديدة في الخير - حتى سمع فجأة صوت المزامير وقرع شديد على الباب، وبعث أجاثون بالعبيد للاستطلاع، وبعد برهة كان صوت ألقبيادس مسموعا في الفناء، وكان ثملا جدا وأخذ يصيح قائلا: «أين أجاثون؟ خذوني إليه!» وأخيرا تمكن من التماس الطريق إلى الداخل ومعه فتاة تعزف على المزمار وبعض الرفاق يساندونه.
وكان قادما لتوه من حفل آخر، ودخل مدخلا بارعا، حيث ظهر عند الباب متأبطا الفتاة العازفة على المزمار، ويتحوطه رجاله جميعا، ورأسه متوج بإكليل ضخم من اللبلاب وزهر البنفسج والشرطان.
وقال: «عموا مساء أيها الخلان، هلا سمحتم لرجل ثمل جدا أن ينضم إلى حفلكم؟ أم هل أكتفي بتتويج أجاثون بهذه الأشرطة كما اعتزمت ثم أنصرف؟»
وصاح الضيوف جميعا يطلبون إليه البقاء، وقد سر أجاثون لدعوته، فقاده رجاله إلى الداخل وأجلسوه بين أجاثون وسقراط.
وصاح أجاثون بخدمه قائلا لهم: «اخلعوا نعليه، وأريحوه هنا فوق الأريكة بيننا.»
ورد ألقبيادس قائلا: «أجل، حقا، ولكن من هذا الرجل الآخر؟» وقد شغله تتويج أجاثون بالأشرطة عن الملاحظة، ولما تلفت ووقعت عيناه على سقراط هب مذعورا.
نامعلوم صفحہ