سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
اصناف
وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة: «إنني في الواقع لا أفعل شيئا، وإنما أكتفي بأن أعين الطفل على الانطلاق.»
وظن سقراط أن هذا ما حدث أيضا يوم كان في مصنع ماوس، فإن ماوس لم يكون فكرته عن النماذج ويحشرها في ذهن سقراط حشرا، إنما كانا يتبادلان الحديث، يسألان ويجيبان، ونبتت الفكرة فجأة، وأحس سقراط أنها كانت كل الوقت تكمن هناك على صورة من الصور، وإن يكن إدراكه لمعرفته إياها إدراكا ناقصا، ولم يفعل ماوس شيئا سوى أنه أعان الفكرة على الانطلاق.
وأثار سقراط مجرد التفكير في هذا، فمن ذا الذي يعرف كم فكرة هناك تنتظر الانطلاق، ولو تعلمت أن تسأل السؤال الصحيح لاستطعت أن تحررها.
بيد أن الأفكار شيء - وكان سقراط يكتشف منها الجديد دائما - ورؤية الأسد أو أي مخلوق آخر من هذا القبيل تحت سطح الحجر شيء آخر، ولم يتجاوز سقراط العام عاملا في المصنع حتى بدأ أبوه يدرك أنه لا يحتمل قط أن يصبح سقراط نحاتا فائق المهارة، لا لأن الصبي كان خاملا أو ضعيفا، فقد كان يفيض قوة ونشاطا، بل إن الخطر قد ينشأ من ضربه المطرقة في الحجر بحدة زائدة فيفتته شظايا متناثرة، إذ لم تكن له بطبيعته أصابع رقيقة حساسة كأمه وأبيه، وكانت مهاراته مع الناس لا مع الحجارة.
وعرف سقراط ذلك بنفسه وإن لم يتحدث عنه، وفي تلك الأيام لم يفكر أحد في تغيير عمله، وكان الطفل يأخذ عن أبيه مهنته وينتهي بذلك الأمر، ومع ذلك فقد كان يسر للقاء الزبائن الوافدين، وحينما يخرج إلى المدينة بنفسه، وكان يحب الخروج ومشاهدة ما كان يدور في المدينة.
وإن أردت أن تدرك ما كان يحدث لسقراط في تلك الأيام فلا يكفي أن تذكر المصنع الذي كان يعمل فيه فحسب، بل يجب أن تذكر كذلك المدينة التي كان يعيش فيها، ولم تكن أثينا بالمدينة الكبرى في عداد المدائن، وتمكن سقراط أن يعرف أكثر من فيها من الناس أو يعرف عنهم شيئا، ولكنها كانت مدينة مثيرة، فقد كانت تجرى فيها التجارب وتصاغ فيها الآراء، وتصنع فيها التحف الجميلة، أيام كان يعيش فيها سقراط، أكثر - على الأرجح - مما حدث في أي مكان آخر في تاريخ العالم حين ذاك.
وكانت تعلو أثينا، وتميزها في عيني كل إنسان وفي ذهنه، صخرة الأكروبول أو «قمة المدينة» وهي قلعة ومعبد في آن واحد، وكان كل طفل يعلم أن إله البحر بوزيدون والإلهة أثينا تنافسا في هذا المكان، كل منهما يحاول أن يبز الآخر في الهدايا القيمة لكي يظفر برعاية المدينة، وقدم بوزيدون جواد الحرب، وضرب الصخرة بصولجان متشعب فتفجر منها ينبوع من الماء، وما عتم الينبوع هناك، ولكنه لملوحته كماء البحر لم يبلغ في قيمته مبلغ هدية أثينا - شجرة الزيتون المقدسة التي ترعرعت إلى جوار الينبوع.
وأمست أثينا الإلهة الملكة على المدينة، وعاشت مدينة أثينا أمدا طويلا على الزيتون، وانتشرت أشجار الزيتون الخضراء القاتمة متكاثفة في السهل المحيط بها، وصدر الأثينيون زيت الزيتون، وقدموه جوائز في المباريات واغتسلوا به وطهوا طعامهم به، وأحرقوه في المصابيح، وكنت تشاهد الشاب الأثيني المهذب وهو في طريقه إلى الملعب حاملا زجاجة من الزيت يتدلك به معلقة بمشبك فوق ذراعه، والأرجح أن يتناول الصانع من أمثال سفرونسكس حفنة من الزيتون مع طعامه في الغداء ظهرا.
وفي عام 480ق.م؛ أي قبل مولد سقراط بنحو عشر سنوات، أحرق الفرس أكروبول أثينا في غزوتهم الكبرى، وشهد سقراط وهو في العقد الثاني من عمره بقايا جذوع الأعمدة التي سودها الدخان قائمة في مكانها، ولما كان في العقد الثالث بدأ برنامج المنشآت الكبرى، وأخذت ترتفع المعابد الرخامية كأنها تنطح السماء، وهي المعابد التي ما فتئت حديث العالم حتى اليوم.
والرجل الذي رسم مشروع المباني هو بركليز، وقد أضحى آنئذ من زعماء السياسة في أثينا، وكان يزمع أن يسد نفقات المعابد من الأموال التي تبرع بها الإغريق في المدن الجزرية وعلى السواحل الشرقية لحمايتها من عودة الفرس، وبدأت أثينا تتزعم هذه الجامعة الدفاعية، فأخذت تتطور شيئا فشيئا إلى أن صارت المدينة ذات السيادة في إمبراطورية بحرية، وكانت جاراتها من المدن ترقبها وقتئذ في غيرة وخشية، هذه المدن المنتشرة فوق بلاد اليونان الأصيلة، وخاصة في الجنوب في شبه الجزيرة الكبرى المعروفة باسم بلبونيسس، وما كانت أسبرطة (مدينة الجند) لتسمح للقوة الأثينية باطراد النمو.
نامعلوم صفحہ