كيف تنصر نبيك صلى الله عليه وسلم
كيف تنصر نبيك صلى الله عليه وسلم
ناشر
دار الحضارة للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
اصناف
المقدمة
الحمد لله ذي القدرة والجلال، والنعم السابغة والإفضال، الذي منّ علينا بمعرفته، وهدانا إلى الإقرار بألوهيته، وجعلنا من أمة خاتم النبيين، السامي بفضله على سائر العالمين، الطاهر الأعراق، الشريف الأخلاق، الذي قال الله الكريم مخاطبة له في الذكر الحكيم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وقال عن نصرته لدينه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ﷺ، وأزلف منزلته لديه، وعلى إخوانه وأقربيه، وصحابته الأخيار، وتابعيه، وسلم عليه وعليهم أجمعين إلى يوم الدين ..
أما بعد،، فإن الله هدانا بنبيّه محمد ﷺ، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته، ويُمن سفارته خيري الدنيا والآخرة، وكان من ربه بالمنزلة العليا، وفي كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكره ﷺ، وعدِّ محاسنه، وتعظيم أمره وتنويه قدره، فمن ذلك ما قاله سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ وقد جمع له سبحانه في هذه الآية ضروبًا من رُتب الأثرة، وجملة أوصاف
1 / 5
من المِدْحة، فجعله شاهدًا على أمّته بإبلاغهم الرسالة، فتحملها في الدنيا، ويؤديها في الآخرة، يقول تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ ومبشّرًا لأهل طاعته، ونذيرا لأهل معصيته، وداعيًا إلى توحيده وعبادته، وسراجًا منيرًا يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية، ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد والهداية، وقد وصفه ربه بهذه الآية في التوراة وزيادة، «حرز للأميّين (^١)، أنت عبدي ورسولي سميّتك المتوكّل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخاب (^٢) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا «لا إله إلا الله» ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبنا غلفًا».
بل من فضيلته عند الله أن جعل طاعته طاعة لله، فقال ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وأقسم ربه بحياة رسوله ﷺ، وله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس ذلك لأحد منهم، يقول ابن عبّاس: «ما خلق الله، وما ذرأ، وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد ﷺ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
_________
(^١) أي: حفظًا للعرب؛ لأن الكتابة عندهم قليل.
(^٢) من السخب، وهي لغة ربيعة في الصخب وهو رفع الصوت.
1 / 6
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾» وقد تضمنت سورة الضحى من كرامة الله تعالى لمحمد ﷺ، وتنويهه به، وتعظيمه إياه خمسة وجوه:
الأول: القسم له عمّا أخبره به من حاله بقوله: ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ أي: وربّ الضحى، وهذا من أعظم درجات المبرّة ..
الثاني: بيان مكانته عنده، وحظوته لديه بقوله: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ أي: ما تركك وأبغضك بعد أن اصطفاك وأحبّك ..
الثالث: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ أي: كل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل على الحالة السابقة، فلم يزل ﷺ يصعد في درجات المعالي، ويُمكّن له من دينه، ويُنصر على أعداءه، ويسدد في أحواله حتى مات، وقد وصل إلى حال ما وصل إليها الأولون والآخرون من الفضائل والنعم، وقرة العين، وسرور القلب ثم بعد هذا لا تسأل عن حاله في الآخرة من تفاصيل الإكرام، وأنواع الإنعام ولقد من ربه عليه بالكوثر …
الرابع: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة، وأنواع السعادة، وثبات الإنعام في الدارين وزيادة ..
1 / 7
الخامس: تعداده سبحانه لوجوه امتنانه عليه ﷺ بقوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ وقد زكّاه سبحانه في خلقه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وزكّى بصره فقال: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ وزكّى منطقه فقال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ورفع ذكره فلا يذكر إلا ويذكر معه كما في الأذان، والتشهد، والخطب، والمجامع والأعياد، وذاك قوله تعالى ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ صاحب الوسيلة (^١)، والفضيلة (^٢)، والمقام المحمود (^٣)، والحوض المورود، ولواء الحمد الذي تحته كل حماد، أكرم خلق الله عليه، وسيد ولد آدم وهذا كله، إنما هو غيض من فيض، وقليل من كثير فضله ﷺ، ولما أوجب الله علينا من تعزيره، ونصره بكل طريق ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن، وحفظه وحمايته من كل مؤذ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصرة
_________
(^١) منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله.
(^٢) المرتبة الزائدة على سائر الخلق.
(^٣) الشفاعة العظمى
1 / 8
الخلق ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسوله بالغيب؛ ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب، أحببت أن أضرب بسهمي في بيان نزر قليل من تفاصيل وجوب محبته، ولزوم نصرته، وإخلاص نصيحته، وحقه على أمته عليه أفضل الصلاة والتسليم ..
واعلم. نور الله قلبك وقلبي، وضاعف في هذا النبي الكريم حبي وحبك. أن لرسول الله عليك ﷺ حقوقًا عظيمة منها:
١ - ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
فإن على كل مؤمن وجوب الإيمان به ﷺ وتصديقه فيما أتى به، وهذا معنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع ..
يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: - «ويجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي ﷺ، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلمة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي ﷺ، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله، شهد
1 / 9
أنه صادق فيما يخبر به عن الله، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة» ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: «فرأس الأدب مع الرسول ﷺ: كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة بخيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أوشكّا، أو يقدّم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل ﷾ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل»
وقد تكرر الأمر بالإيمان برسول الله ﷺ بل وقرنه بالإيمان بالله، يقول تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فجعل الرب شرط الإيمان به الإيمان برسوله ﷺ وبما يدعو إليه، كيف وقد أيده بالآيات الظاهرات الدالة على صدق ما جاء به، ولذا جاء عقب هذا الآية: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
1 / 10
الصَّادِقُونَ﴾ وتأمل حصر الإيمان بأداة الحصر ﴿إِنَّمَا﴾ في من آمن بالله ورسوله، ثم لم يشك أو يتزلزل بل ثبت على حال واحده وهي التصديق المحض، ثم جاء بذل المال والنفس في سبيل الله، فكان الجزاء أن أشار إليهم: ﴿أُولَئِكَ﴾ لما فيه من معنى بعدهم في الفضل والأجر، وعقبه التزكية ﴿هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ أي الذين صدق فعلهم قولهم ..
بل حكم الله بكفر من لم يؤمن برسوله وحذره من سعيره فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾
وأخرج مسلم (^١) من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» ..
وأخرج أيضا (^٢) أن رسول الله ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»
_________
(^١) (١/ ٥١).
(^٢) (٣/ ٦٥) ٤٤٠٧.
1 / 11
وانظر إلى المنزلة الرفيعة والمكانة العظيمة التي بلغها صديق هذه الأمة، حين صدق رسول الله حق تصديقه، وآمن به حق الإيمان، فعن عائشة ﵂ قالت: «لما أسري بالنبي إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقال: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟. قال: نعم! قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق،
قالوا: أو تصدق أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم إني لأصدق فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوه أو روحة «فلذلك سمي الصديق .. أخرجه الحاكم (^١)، وصححه الألباني (^٢). ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: «بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع، ليس لها راع غيري؟! وبينما رجل يسوق بقرة وقد حمل عليها، فالتفتت إليه، فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني
_________
(^١) الصحيحة (١/ ٦١٥) ٣٠٦.
(^٢) (٣/ ١٢٨٠) ٣٢٨٤.
1 / 12
خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي ﷺ «فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب» أخرجه البخاري (^١) ..
وانظر. رحمك الله. إلى مبلغ الإيمان برسول الله ﷺ عند الصحابة ومدى التصديق، فيما أخرجه مسلم (^٢) من حديثه النواس بن سمعان في قصة المسيح الدجال وفيه: «إنه خارج من خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا؛ اقدروا له قدره» فها هو يخبرهم ﷺ بطول يوم في عصر الدجال حتى يغدو كسنة، فلا يسأل أصحابه إلا عن الصلاة وما ذاك إلا لسرعة استجابتهم، ورسوخ فضلهم، ولا غروفهم من زكاهم ربهم …
وفي يوم الأحزاب حين تمايزت الصفوف عن أصناف ثلاثة لا رابع لها إما مؤمن خالص، أو كافر جاهر بكفره، أو منافق كشف خبث سريرته يوم أصاب المسلمين ما أصابهم من جوع، وخوف، وتكالب
_________
(^١) (٤/ ٢٢٥٢).
(^٢) صحيح سنن النسائي (٦/ ٤٣) ٣١٧٦.
1 / 13
أعداؤهم عليهم، واعترض أثناء حفر الخندق للمسلمين صخرة بيضاء صلدة شق عليهم كسرها، فذهب سلمان ﵁. ليخبر رسول الله لا فقام ﷺ بأبي هو أمي. وهو لها، فأخذ المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدغها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيّ المدينة كأنها مصباح في ليل مظلم، فكبر رسول الله ﷺ وكبّر صحابته، فضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة .. فسألوا رسول الله ﷺ، فقال: «إني حين ضربت الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعيني، قال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ ﷺ بذلك، ثم ضربت الثانية فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعيني، فقالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول الله ﷺ بذلك، ثم ضربت الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني. قال رسول الله ﷺ عند ذلك: دعوا الحبشة ما ودعوكم». أخرجه النسائي وحسنه الألباني (^١) ..
_________
(^١) التفسير (١/ ٣٥٨).
1 / 14
وارع سمعك وبصرك لما تقرأ ترى ما بثه رسول الله ﷺ من روح الأمل والبشارة في زمن جوع شكي فيه الصحابة إلى رسول الله الجوع، فرفعوا عن بطوهم عن حجر، فرفع رسول الله عن حجرين، وفي خوف شديد، ومع ذلك يؤمن صحابة رسول الله ﷺ ما أخبرهم به في هذا الزمن الحرج ولا ريب فحكمه عدل، وخبره صدق، ولذلك كان أبو هريرة ﵁. يقول حين فتحت هذه الأمصار: افتتحوا ما بدا لكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحوها إلى يوم القيامة، إلا وقد أعطى الله محمد ﷺ مفاتيحها قبل ذلك ..
ومما مضى عليك بالمسارعة في الإيمان برسول الله ﷺ، واحذر أن تورد الشبهة على الأحاديث النبوية، ولا تجعل قلبك كالإسفنجة تتلقى ما يرد عليها، واجتنب إثارة الشبهة وإيرادها على نفسك أو غيرك، فالشبهة خطّافة، والقلوب ضعيفة، وأكثر من يلقيها حمّالة الحطب. المبتدعة وأذنابهم. فتوقّهم، ولك في سلفك الصالح قدوة، فبهداهم اقتده ..
1 / 15
٢ - حتى يحبك الله ..
ادعى قوم على عهد رسول الله أنهم يحبون الله، فنزلت آية المحنة ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ يقول ابن كثير: «هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في جميع أقواله وأفعاله» (^١)
وقال ابن القيم: «يحبكم الله، إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة، ومحبّته لكم منتفية» (^٢)، فمحبة الله تكون ثابتة بمتابعة رسول الله ﷺ في أعماله وأقواله وأخلاقه ..
وتأمل. وفقك الله. ثمرة متابعة رسول الله: محبة الله، ومغفرة الذنوب واحذر من ترك طاعته ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
_________
(^١) مدارج السالكين (٣/ ٢٢).
(^٢) الصارم المسلول لشيخ الإسلام (٥٦).
1 / 16
تعصي الإله وأنت تزعم حبه … هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته … إن المحب لمن يحب مطيع
يقول الإمام أحمد - رحمة الله -: «نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول ﷺ في ثلاثة وثلاثين موضعا» (^١) ويقول شيخ الإسلام: «وقد أمر الله بطاعة رسوله ﷺ في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا وذكر معه»
فطاعة الله ورسوله ﷺ رحمة ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ ..
وطاعة الله ورسوله ﷺ فوز ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ..
_________
(^١) الفتاوى (١٩/ ١٠٣).
1 / 17
وطاعة الله ورسوله ﷺ سبب دخول الجنة ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ ..
بل إن طاعة الله ورسوله سبب عظيم في اللحاق بأولي الدرجات العلى ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ ..
واحذر - هداك الله - مخالفة الله ورسوله فإن المخالفة سبب الشقاء في الدنيا والآخرة يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ وفي هذه الآية بيان حال مخالف الرسول ﷺ حين يقوم الناس لرب العالمين فيعض الظالم على يديه أسفا وحسرة لمخالفة الرسول ﷺ لكن أنى له الذكرى ..؟!
ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾
1 / 18
وقارن بين حال المتبع والمخالف أو المبتدع، فالمتبعون في جنات فائزون مهتدون مرحومون، والمخالفون قد بلغ منهم الأسى مبلغه وعضوا الأنامل حسرات، وشروا في جهنم جماعات يلعن بعضهم بعضا، ويدعو بعضهم على بعض.
ومن أدل الآيات الموجبة للتسليم لحكمه ﷺ، والانقياد له قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وفي هذه الآية أقسم سبحانه بأجل مقسم به - وهو نفسه ﷿ على أنه لا يثبت لهم إيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكموا رسول الله في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظه (ما) من صيغ العموم، ولم يقتصر الأمر على مجرد التحاكم، بل ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجا. ضيقا. من حكمه، بل يقبلوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على قذى، فإن هذا مناف للإيمان، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ فذكر الفعل مؤكدة بمصدره القائم على ذكره مرتين، وهو التسليم والخضوع والانقياد طوعًا ورضًا، وتسليمًا لا قهرًا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده
1 / 19
الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وخلاصه في تسليمه إليه، وليعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبر به منها، وأقدر على تخليصها، كما قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ ومتى أراد العبد أن يعلم قبوله لحكم رسول الله ﷺ، وتسليمه له، فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار والصغار ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير النصوص بودهم أن لولم ترد!! وكم من حرارة في أكبادهم منها!! وكم من شجي في حلوقهم منها ومن موردها!! ستبدولهم تلك السرائر بالذي يسود ويخزي يوم تبلى السرائر ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾
وأخرج البخاري (^١) من حديث أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد
_________
(^١) (٦/ ٢٦٥٥).
1 / 20
أبى»، وأخرج - أيضا من حديث جابر قال: «جاءت الملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم. فقال بعضهم إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة، وإن القلب يقظان. فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. فقال بعضهم: الدار الجنة، والداعي محمد ﷺ، فمن أطاع محمد ﵊ فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس»
وفي حديث العرباض بن ساريه. ﵁. قال: «وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا
1 / 21
عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» أخرجه أبو داوود، وصححه الألباني (^١) ..
يقول الإمام الخطابي: - إنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة، فعل من أمسك بشيء بين أضراسه، وعض عليه مانعا له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون التمسك بالشيء، إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولا وأسهل نزعا» وقد حوى الحديث ركيزتين أساسيتين:
١/ الإتباع .. ٢/ وذم الابتداع ..
وكل ما تركه الرسول ﷺ من جنس العبادات، ولم يفعله مع وجود المقتضي لفعله على عهده ﷺ ففعله بدعه، وتركه سنه، كالاحتفال بالمولد، وإحياء ليلة الإسراء والمعراج، وإحياء ليلة الهجرة، ورأس السنة وغيرها، لقول رسول الله ﷺ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». وقال ابن مسعود: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم» (^٢).
_________
(^١) (٤/ ٢٠٠) ٤٦٠٧.
(^٢) أخرجه الدارمي (١/ ٦٩)، واللاكائي (١/ ٨٩)، وقال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح» مجمع الزوائد (١/ ٨١) ..
1 / 22
يقول الإمام مالك: «فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا» (^١)، ويقول شيخ الإسلام: «والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنّة» (^٢)
وتعال لنقف على حال السلف الصالح في اتباعهم، وسرعة اقتدائهم بحبيبهم ﷺ ..
أخرج البخاري (^٣) عن البراء ﵁ قال: «لما قدم رسول الله ﷺ المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحبّ أن يُوَجّه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ فتوجه نحو الكعبة، وصلّى معه رجل العصر ثم خرج فمرّ على قوم من الأنصار فقال: «هو يشهد أنه صلى مع النبي ﷺ، وأنه قد وجه إلى الكعبة»، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر ..
فما أسرع تأسيهم فلم يترددوا في التمسك بما جاء به، بل لم ينتظروا رفع رؤوسهم من الركوع، وبادروا بالتوجه إلى حيث توجه
_________
(^١) الاعتصام للشاطبي (١/ ١٤٩).
(^٢) الفتاوى (٢٦/ ١٧٢).
(^٣) (٤/ ١٦٣٤) ٤٢٢٢.
1 / 23
الحبيب ﷺ إلى الكعبة المشرفة وهم ركوع ..
وأخرج أبوداود وصحح الألباني (^١) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: «كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله ﷺ إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض» حتى يقال: «لو بسط عليهم ثوب لعمهم» فبمجرد أن طرق الأمر أسماعهم، كان فعلهم يترجم قوله ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ويأتي الراوي ليصف حالهم بعد الأمر «لو بسط عليهم ثوب لوسعهم» … وقد يخفى على المسلمة الحكم الشرعي في أمر من أمور حياتها، ومسألة في دينها، ويعزّ عليها الإجتهاد والتماس النصوص الشرعية، فالمتعين هنا التورع عن العمل بلا علم وسؤال الراسخين في العلم؛ لمعرفة الحق المبين، أخرج مسلم (^٢) من حديث أسماء قالت: جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسا،
_________
(^١) (٢/ ٤٩٨) ٢٢٨٨ - وتأمل إنكار رسول الله ﷺ تفرق المسلمين أثناء النزول في السفر، وعزوه إلى الشيطان، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ فما بالهم تفرقوا اليوم في كل شيء إلا من رحم الله، وإلى الله المشتكى ..
(^٢) (٣/ ١٦٧٦) ٢١٢٢.
1 / 24