فقد كان الفرنسيون يطلبون الديمقراطية في الواقع ويمهدون لها بطلب الحرية والمساواة والإخاء، أما الصين فلا حاجة بها إلى تحرير الفكر من سلطان الحكام؛ لأن الناس فيها يقرءون ما يشاءون ويكتبون ما يشاءون ويعتقدون ما يشاءون، ولا حاجة بها إلى تقرير مبدأ المساواة؛ لأنهم بعد شخص الإمبراطور سواء أمام القانون، وأعظم وزرائهم ورؤسائهم نبغوا من سواد الشعب فلم يكن مولدهم بين أبناء الطبقة الفقيرة حائلا دون ولاية المناصب والتصدي بقيادة الأفكار بالعظات والدروس، ولا حاجة بين الصينيين إلى تقرير مبدأ الإخاء؛ لأنهم آمنوا بوحدة وطنهم وجعلوا حدوده كجدران البيت الواحد تسكنه الأسرة الواحدة، ويقدسون الأسلاف حتى ترتفع إلى السلف الكبير في مجاهل التاريخ.
والفدرالية حسنة في الولايات المتحدة؛ لأن ولاياتها كانت متفرقة فالتمست توحيدها من طريق الفدرالية، فالوحدة الوطنية هي الغرض من هذا الاتحاد، وليس من الحكمة أن نفقد الوحدة في سبيل الفدرالية، بل المصلحة أن نجعل الفدرالية وسيلة إلى الغاية الأولى، وهي توثيق كيان الصين.
وكثيرا ما عاب على المتحذلقين لغطهم بما يسمونه حرب الطبقات وسألهم مرة بعد مرة: أين هي الطبقات؟ وأين هم النبلاء المتوارثون؟ وأين هي الكهانة ودرجاتها الكنسية والاجتماعية التي يسميها الغربيون بالهيرارشية؟
وكان يقول: إن حرب الطبقات عند كارل ماركس أصل من أصول التطور، ولكنها في الحقيقة عارض مرضي يظهر كلما استشرى البلاء وعز التعاون بين أصحاب المصلحة المشتركة، ولو كانت أصلا من أصول التطور لكان أحسن الناس من يعمل لخلقها والحض عليها، فكيف إذا كانت مرضا يمنع كما تمنع الأمراض؟
إن النداء بالديمقراطية أجدى على الصينيين من النداء بالحرية والإخاء والمساواة، فما طلب الغربيون الحرية والإخاء والمساواة إلا لأن الحجر على الأفكار وتفاوت الطبقات كان العقبة الكأداء بينهم وبين الديمقراطية.
ولما وضع مبادئه الثلاثة - وهي مبادئ القومية وسيادة الشعب وتيسير المعيشة - لم تكن بغيته كلمات تقال محاكاة للدعوات التي تهتف بكلماتها وترددها على أسماع جماهيرها، ولكنه توخى من كل كلمة هدفا يلائم الصين ويوافق حاضرها ومستقبلها.
فوضع مبدأ القومية لدفع خطر التقسيم باسم الفدرالية، واتقى به خطر المذاهب التي تسخر الجهلاء لتقويض أوطانهم وبث بذور العداوة بينهم وبين إخوانهم، وتصوير هذه العداوة لهم كأنها بلاء دائم لا تجدي فيه الحيلة ولا تصلحه نظم السياسية ولا الأخلاق.
ووضع مبدأ السيادة الشعبية لإلغاء المعاهدات الأجنبية الجائرة وتخويل الأمة أن تختار موظفيها وتعزلهم، وأن تنكر محل سلطان لا يستمده صاحب السلطان منها بمحض رضاها، وأن تكون السياسة والإدارة والتشريع قائمة كلها على هذا الأساس.
ووضع مبدأ المعيشة الميسرة للجميع؛ لأن اعتبره غاية المذاهب قاطبة في كل زمن، واعتبر الاشتراكية والشيوعية والديمقراطية وسائر مذاهب الاجتماع وسائل عارضة لتلك الغاية الثابتة، وما من مذهب منها يستحق أن يبقى بعد إنجاز مهمته وتحقيق غايته، فما وضعت الاشتراكية أو الشيوعية أو الديمقراطية لذاتها، ولا وضعت لتبقى في كل زمن وكل آونة، ولكنها وضعت لتدبير معيشة الرعية واتباع وسائل مستحدثة لتيسيرها كلما قصرت وسائلها الأولى.
ولو شاء سن ياتسن أن يتخصص لتدريس العلوم السياسية لأغناه ما اطلع عليه من أمهات الكتب الغربية والشرقية في هذه العلوم، وقد صادفت نشأته فترة حافلة بالمصنفات الحديثة والقديمة في نظم الحكم ومبادئه وفلسفة الاجتماع ومدارسه المتعددة وأصول الاقتصاد وعلائقه بالحكومات والهيئات الاجتماعية، وكان يتابع هذه الكتب ويطلع عليها كلما صدر كتاب منها، فادخر منها محصولا وافيا كأوفى ما يكون الاطلاع لو شاء أن يتخصص لتدريسها.
نامعلوم صفحہ