وقال إبراهيم خيرت باسما ليداري انفعالا بالحسد: مبارك، من الخير أن نرمم بيتنا الآيل للسقوط بفعل أعاصير السياسة!
واغتاظ عيسى من هذه الملاحظة، فردها قائلا: وبخاصة وأنني لا قلم لي أستغله في التقرب من الأعداء!
وضحكوا جميعا، وانهالت عليه الأسئلة من كل لون، وجعل يجيب بحذر حتى تراكمت أكاذيبه، ولم يفض بذات نفسه إلا لسمير عبد الباقي وهما يسيران منفردين بشارع سليمان باشا، صارحه بالحقيقة بلا رتوش، فسأله سمير: ألا يهمك إنجاب الذرية؟
فأجاب بامتعاض: يهمني أن أجد رفيقا في وحدتي، وهذه امرأة لا بأس بها، مستعدة لأن تتقبلني بعيبي، فلم لا أقبلها بعيبها؟ وأين هي الفتاة الكريمة التي ترضى بي بحالتي الراهنة؟!
وزار عنايات هانم ليطلب منها يد قدرية، فوجد منها استعدادا طيبا لقبوله، وقال: سأصدقك القول، فإن الكذب هو عدو الزواج، لي رصيد في البنك لا بأس به ومنه نصيبي من البيت الذي آل إليك، ولي أيضا معاش صغير، وليس لي عمل في الوقت الحاضر، ولكن من الممكن أن أجد عملا محترما في المستقبل، وقد أخرجت من الحكومة لا لسبب يمس الشرف، ولكن للتعصب السياسي الأعمى، ولم يكن من الممكن أن يبقي العهد الحاضر على شخص مثلي، يعده في غاية الخطورة!
فقالت العجوز: جميل .. جميل، نحن لا تهمنا الثروة، ولا نفضل العمل إلا لأن الفراغ غير مستحب، ولا أشك في شرفك، فقد قاسى المرحوم زوجي كما تقاسي، وقلبي يحدثني بأنك ستكون خير زوج لابنتي.
ولم تفاتحه عن زيحات ابنتها المتعاقبة، ولا عن عقمها، فارتاح لذلك، إذ إنه رأى أن اطلاعه على عيوب العروس مقدما لن يترك له فرصة في المستقبل لتمثيل دور الزوج المخلص الذي خاب أمله، وهو دور مهم جدا لتعزيز مكانته وسيطرته!
22
وسافر إلى رأس البر لقضاء شهر العسل في عشة عنايات هانم، ونمت العلاقات بين الأطراف الثلاثة على وجه يبشر بالخير، وقد أراد أن يكون منذ البدء «رجلا» بمعنى الكلمة، فلم يلن في موقف يندم عليه مستقبلا، ولذلك رفض أن يقيم في مسكن الأم كما اقترحت، وأصر على السكن مع زوجه بعيدا في الدقي، حي الذكريات التي لا تنسى، وصارح الأم بشجاعة غريبة، على حد وصفها لها، بأنهما - هو وزوجته - يجب أن يتمتعا بمالها في حياتها ليدعوا لها بقلب خالص بطول العمر! كان يقف وراء مطالبه حتى تنفذ بحذافيرها، وهو يقول لنفسه إن الذي أضاع حزبه الجبار لم يكن سوى التساهل في أواخر عمره الحافل بالعناد والإصرار!
وكان يرى رأس البر لأول مرة في حياته، فأعجب بطابعها الخاص الجامع لمحاسن المدينة والريف والساحل، وفتنة ملتقى النيل والبحر، والهدوء الشامل كحلم سعيد، والوجوه النضرة، والهواء اللذيذ الجاف الذي يستبيح عصمة البيوت من جدرانها المضيافة، ولم يجد أحدا من أصدقائه في المصيف، فوهب وقته كله لأسرته، وصادف الزواج توفيقا بديعا، وشعر بأنه سيطر على زوجه بقوة واقتدار، ولأول مرة آلمته البطالة، إذ وجد الحياة في البيت تدور على محور غير محوره، وأن شخصيته وحب زوجه له ومجاراة حماته لرغبته، كل أولئك لم يدفع عنه ذلك الإحساس المؤلم، وقديما كان يمارس حياة الأعيان أمام الناس بماله، اليوم تتعلق الأبصار بزوجه وأموالها، ولن يصدق أحد أنه سيواصل إلى الأبد حياته المرفهة بنصيبه في البيت المباع أو بمعاشه. وجعل يداري أفكاره بالتظاهر بالبساطة والثقة والضحكات العالية، ولكنه أيقن أن حياته لن تدوم على هذا المنوال، وأن عليه أن يستثير همته النائمة ليبدأ عملا حرا جديرا به.
نامعلوم صفحہ