فقال الشيخ عبد الستار ساخرا: ولكننا لم نفعله يا سي عمر!
وتجمع الماضي في خيال عيسى كقبضة عنيفة مفعمة بالجلال والحزن، وحدثه قلبه بأن ذلك الماضي يتبلور الآن في صورة فقاعة لن تلبث أن تنفجر، وأن وجها جديدا من الحياة يسفر عن صفحته رويدا رويدا حافلا بالجدة والغرابة، وأن بوسعه أن يتعرف على هذا الوجه لأنه سبق له أن لمحه هنا أو هناك، ولكن من أين لهذا الوجه أن يتعرف عليه هو داخل الفقاعة المتفجرة؟ ثم استراحت عيناه عند صورة فنية معلقة على الجدار فوق المدفأة الباردة، تعرض زنجية غليظة الشفتين جاحظة العينين في غير دمامة، تحدق في وجهه بنظرة حسية وقحة ناطقة بالإغراء والتحدي.
7
وشحن الجو باحتمالات شتى متناقضة، ولكنها اتفقت جميعا على انتزاع الطمأنينة من نفسه، فكابد حياته بأعصاب عارية، وبات تأجيل زواجه أمرا محتوما حتى تستقر الأرض تحت قدميه، وحتى يسترد حموه وعيه. وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر، ومضغوا الشائعات كالعلقم، ثم علم أن حسن ابن عمه اختير لوظيفة مهمة، وأن الباب انفتح أمامه إلى مراكز أهم وأخطر، مما قطع بأنه من أهل الدنيا الجديدة وقد صعقه الخبر أشد مما صعقته الأحداث، ولبث مدة لا يدري كيف يبلغه أمه، ولكن العجوز لم تفهم الأمور على حقيقتها وقالت ببلاهة: سيأتي دورك، لا تحزن، أنت تستحق كل خير.
وقال لنفسه: ما أجمل أن يعيش الإنسان بعيدا عن منطقة الوعي! ثم أعلن عن نظام التطهير، وقرأه بانتباه جنوني ومرارة ويأس، سيدركه الدمار الذي يحيق بالأحزاب والزعماء، ستقتلع الجذور التي تثبته بأرضه جذرا بعد جذر، وما أغرب ما يقع اليوم مما لم يكن يتخيله أحد، ها هو صديقه إبراهيم خيرت المحامي وعضو مجلس النواب السابق يتحمس للثورة بقلمه في أكثر من صحيفة كأنه ضابط من رجالها! ويهاجم الأحزاب - وحزبه ضمنها طبعا - والعهد البائد كأنما لم يكن أحد رجاله. وعباس صديق آمن مطمئن غير مكترث للأحداث إذا وجد ظهرا يحميه في العهد الجديد بل واصل طموحه إلى الترقي بأمل أقوى مما كان، سمير عبد الباقي وحده الذي شاركه القلق والخوف والمصير، وهو شاب نحيل رقيق قمحي البشرة، تشع من عينيه الخضراوين نظرة حالمة فوجد عنده بعض العزاء، وسأله: كيف تتصور أن يكون مصيرنا؟
فقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة: الطرد أقل ما ينتظرنا.
فسأله بحلق جاف: ما عسى أن نفعل؟ - معاش لا قيمة له، ولكننا قد نجد عملا في شركة. - ترى هل يتيسر لنا ذلك، وهل نجد الشجاعة لنبدأ من أول الطريق من جديد؟!
وهز الآخر رأسا لا يعد الشيب نادرة في سواده وغمغم بلا روح : عسى أن تكذب الأحداث ظنوننا.
وتراكمت الشكاوى في لجنة التطهير كالزبالة، وعلم عيسى أن كثيرا منها يستهدف القضاء عليه. ولم يستغرب ذلك بطبيعة الحال، فإن أعداءه من المسئولين في الوزارة أكثر من أصدقائه، وأضاف إليهم الحاقدين والحاسدين والذين يتطوعون للشر عند أي مناسبة، بل من هؤلاء وأولئك من تحداه علنا في الوزارة بلا سبب، ومن عرض به ساخرا وجها لوجه، وحتى بعض مرءوسيه استباح لنفسه الاستهانة به، حتى انقلبت الوزارة ركنا من الجحيم.
ثم استدعي للمثول أمام لجنة التطهير، وكانت اللجنة تجلس وراء مائدة خضراء امتدت في عرض الحجرة بمكتب المستشار القانوني للوزارة، واحتلت السكرتارية الجناح الأيمن، على حين دعي هو للجلوس أمام الأعضاء في الناحية المقابلة من المائدة، لمح مكان صورة الملك أخرى تحمل اسم الله، ونقل بصره بين الوجوه فعرف في ممثل مجلس الدولة زميلا قديما في لجنة الطلبة كاد يهلك معه يوما في مظاهرة أمام بيت الأمة، فبل منظره ريقه، ولكن الأعين جعلت تنظر إليه برزانة أو تلقي على الأضابير نظرات، ولم يبد على أحد منهم أنه زامله يوما، بالرغم من وجود مراقب المستخدمين ومدير الإدارة العامة بينهم، وكان شخصه يهز كثيرين من أعضاء اللجنة في الماضي، حتى وحزبه خارج الحكم، ولكن حلت الحيدة الباردة محل العرفان والعاطفة، وسرى في جو الحجرة الكبيرة عالية السقف ذات الجداران القاتمة المشبعة برائحة السجائر العطنة روح رهبة ثلجية، ومن خلال زجاج الباب المغلق انقضت حدأة على الشرفة الخارجية ثم ارتفعت بسرعة خاطفة وهي تطلق صوتا كالنواح.
نامعلوم صفحہ