فهزت أمينة رأسها موافقة، ثم قالت: وأنت متعلمة يا ست البنات. حائزة على الابتدائية، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ ولست في حاجة إلى الوظيفة، فلندع الله أن يقويك وأن يكسو جمالك الفتان بالعافية واللحم والدهن.
فقالت عائشة بحدة: أريد لها العافية لا السمانة، السمانة من العيوب خاصة في البنات، أمها كانت زين أيامها، ولم تكن سمينة.
فابتسمت أمينة وقالت برقة: حقا أمك يا نعيمة كانت زين أيامها ..
فقالت عائشة وهي تتنهد: ثم صارت عبرة الأيام!
فغمغمت أم حنفي: ربنا يفرحك بنعيمة ..
فقالت أمينة وهي تربت على ظهر نعيمة بحنان: آمين يا رب العالمين ..
وعدن إلى الصمت، وإلى سماع الصوت الجديد الذي كان يغني: «أحب أشوفك كل يوم»، وإذا بباب البيت يفتح ثم يغلق فقالت أم حنفي «سيدي الكبير» وقامت مسرعة إلى الخارج لتضيء مصباح السلم. وما لبثن أن سمعن دقات عصاه المعهودة. ثم تراءى عند مدخل الصالة فوقفن جميعا في أدب. ووقف قليلا ينظر إليهن خلال أنفاسه المبهورة ثم قال: «مساء الخير» فرددن في صوت واحد: «يسعد مساك»، وسبقت أمينة إلى حجرته فأضاءتها، ومضى الرجل على أثرها في هالة من وقار الشيخوخة البيضاء. وجلس كي يسترد أنفاسه. ولم تكن الساعة قد جاوزت التاسعة مساء. ظلت أناقته كما كانت في الماضي، فالجبة الجوخ والقفطان الشاهي والكوفية الحرير كالعهد القديم، أما هذا الرأس المرصع بالبياض، والشارب الفضي، والجسم النحيل الذي خلا من سكانه، فكانت جميعا - كعودته المبكرة - من طوارئ الزمن الجديد. ومن طوارئ هذا الزمن أيضا سلطانية اللبن الزبادي والبرتقالة اللتان أعدتا لعشائه، فلا خمر ولا مزة ولا لحوم ولا بيض، وإن بقي بريق عينيه الزرقاوين الواسعتين آية على أن رغبته في الحياة لم تفتر ولم تهن. ومضى يخلع ملابسه بمعاونة أمينة كالمعتاد، ثم ارتدى جلبابه الصوفي وتلفع بالعباءة ولبس طاقيته ثم تربع على الكنبة. وقدمت له صينية العشاء فتناوله دون حماس، ثم قدمت له أمينة قدحا مملوءا حتى نصفه بالماء فأخذ زجاجة الدواء وسكب في القدح ست نقط، ثم تجرعه بوجه مقطب متقزز، ثم تمتم: «الحمد لله رب العالمين.» طالما قال له الطبيب إن الدواء مؤقت أما «الرجيم» فدائم، وطالما حذره من الاستهتار أو الإهمال، فالضغط قد استفحل، والقلب قد تأثر به. وأجبرته التجربة على الإيمان بتعليمات الطبيب بعد أن عانى من الاستهانة بها ما عانى. فما من مرة خرج عن حده حتى تداركه الجزاء، وأخيرا أذعن لحكمه، لا يأكل ولا يشرب إلا ما يسمح به، ولا يسهر إلى ما بعد التاسعة، ولكن قلبه لم يتخل عن الأمل في أن يسترد يوما - بقدرة قادر - صحته وأن ينعم بحياة طيبة هادئة، وإن تكن حياة الماضي قد ولت إلى الأبد. وامتدت أذنه إلى الغناء المترامي من الراديو في ارتياح، وكانت أمينة تحدثه من مجلسها فوق الشلتة عن برد اليوم والمطر الذي انهمر في الضحى فلم يلق إليها بالا وقال في سرور: قيل لي إنه ستذاع الليلة بعض الأغاني القديمة ..
فابتسمت المرأة في ترحيب إذ كانت تحب هذا اللون من الغناء، ربما متابعة لحب السيد له أكثر من أي شيء آخر. ولبث السرور متألقا في عيني الرجل لحظات حتى أدركه فتور. لم يعد بمستطيع أن ينعم بشعور سار دون تحفظ، أو دون أن ينقلب عليه فجأة فيستيقظ من حلمه مرتطما بالواقع، الواقع يحدق به من جميع النواحي. أما الماضي فحلم، فيم السرور وقد ولت إلى الأبد أيام الأنس والطرب والعافية؟ وانطوى اللذيذ من المأكل والمشرب والهناء؟ وأين مسيره في الأرض كالجمل وضحكته المجلجلة من الأعماق؟ وطلوع الفجر عليه وهو ثمل بشتى المسرات؟! اليوم يقضى عليه بأن يعود من سهرته في التاسعة كي ينام في العاشرة، والأكل والشرب والمشي بحساب دقيق مسجل في دفتر الطبيب، وهكذا البيت الذي غشاه الزمن بالكآبة هو قلبه ومقامه، وعائشة التعيسة شوكة في جنبه لا يستطيع أن يصلح ما فسد من حياتها وهيهات أن يطمئن على حالها. أليس قد ينكشف عنها الغد وحيدة بائسة بلا أب ولا أم؟ وما يعانيه من قلق على صحته هو المهددة بالمضاعفات، وأخوف ما يخاف أن تخونه قواه فيلزم الفراش كالميت وليس بميت مثل الكثيرين من أصدقائه وأحبائه، وهذه الأفكار التي تحوم حوله كالذباب فيستعيذ بالله من شرها، أجل ينبغي أن يسمع الأغاني القديمة ولو لينام على الأنغام .. - اتركي الراديو مفتوحا حتى لو نمت ..
فهزت رأسها بالإيجاب باسمة، فعاد يقول متنهدا: ما أشق السلم علي! - استرح يا سيدي عند كل بسطة .. - لكن جو السلم شديد الرطوبة، ما ألعن هذا الشتاء .. «ثم متسائلا» .. أراهن على أنك زرت الحسين كالعادة رغم هذا البرد ..
فقالت في حياء وارتباك: في سبيل زيارته يهون كل صعب يا سيدي .. - الحق علي وحدي!
نامعلوم صفحہ