وسأله كمال: ألا تنازعك نقسك إلى معاودة شيء من الماضي؟ - كلا، شبعت من كل شيء، وأستطيع أن أقول بأني لم أضجر من حياتي الجديدة بعد، كل المطلوب مني أن أبدي شيئا من المهارة بين حين وآخر، حتى أفوز ببعض النقود من والدتي، كذلك على زوجي أن تلعب نفس الدور مع أبيها؛ إذ إني ما زلت مغرما بالحياة الرغيدة ..
فلم يملك كمال أن يقول ضاحكا: علمتنا وتركتنا وحدنا في الطريق ..
فضحك إسماعيل ضحكة عالية أعادت إلى وجهه الرزين كثيرا من ملامح الماضي الماكرة، وقال: أآسف أنت على ذلك؟ كلا، أنت تحب هذه الحياة بإخلاص عجيب، غير أنك رجل معتدل، إني فعلت في سنوات لعبي القلائل ما لن تفعل مثله مدى عمرك .. (ثم بلهجة جدية): تزوج وغير حياتك!
فقال كمال بلهجة عابثة: هذا أمر جدير بالتفكير!
ما بين 1924 و1935 خلق إسماعيل لطيف جديد جدير بأن يزوره غواة الأعاجيب. على أي حال إنه الصديق القديم الباقي، أما حسين شداد فقد اختطفته فرنسا من وطنه، وكذلك حسن سليم أمسى الخارج مقامه ومعاشه، لم يعد لهما من سبب في القلب وا أسفاه، ولم يكن إسماعيل لطيف يوما صديق الروح. ولكنه ذكرى حية من الماضي العجيب؛ لذلك فهو خليق بأن يعتز به، وأعتز به أيضا لوفائه، لا مسرة روحية في مصاحبته، ولكنه آية حية على أن الماضي لم يكن خيالا؛ ذلك الماضي الذي أحرص على إثبات حقيقته حرصي على الحياة نفسها، ترى ماذا تصنع عايدة في هذه اللحظة من الزمان؟ وأين هي من عالم المكان؟ وكيف استطاع القلب أن يبرأ من مرض حبها؟! كل أولئك أعاجيب .. - إني معجب يا سيد إسماعيل، أنت شخص جدير بكل توفيق ..
وألقى إسماعيل نظرة على ما حوله، استعرض بها السقف والفوانيس والحجرات والوجوه الحالمة والعاكفين على السمر واللعب، ثم تساءل: ماذا يعجبك في هذه القهوة؟
فلم يجبه كمال على سؤاله، ولكنه قال بلهجة آسفة: أما علمت؟! سوف تهدم في القريب ليقام على أنقاضها عمارة جديدة، سيختفي هذا الأثر إلى الأبد! - مع ألف سلامة، فلتختف هذه المقبرة ليقوم فوقها عمران جديد.
أنطق بالحق؟ ربما، ولكن للقلب لواعجه، يا قهوتي العزيزة أنت قطعة من نفسي، فيك حلمت كثيرا وفكرت كثيرا، وفيك سكن ياسين أعواما، واجتمع فهمي بالثوار؛ ليفكروا ويعملوا من أجل عالم أفضل، ثم أني أحبك لأنك مصنوعة من مادة الحلم، ولكن ما جدوى هذا كله؟! وما قيمة الحنين إلى الماضي؟! ربما ظل الماضي أفيونة أصحاب القلوب، وأشقى ما تصاب به أن تكون ذا قلب حنون وعقل شاك! فلنقل أي كلام ما دمنا لا نؤمن بشيء. - في هذا صدقت، إني أقترح أن يهدموا الهرم إذا وجدوا لأحجاره فائدة ما للمستقبل! - الهرم! ما دخل الهرم في قهوة أحمد عبده؟! - أعني الآثار، أعني أن نهدم كل شيء في سبيل اليوم والغد.
فضحك إسماعيل لطيف، وتطاول بعنقه - كما كان يفعل قديما كلما تحدى - ثم قال: أحيانا تكتب كلاما يناقض هذا القول، إني كما تعلم أقرأ بين حين وآخر مجلة الفكر إكراما لك، وسبق أن صارحتك برأيي، إي نعم، مقالاتك عسيرة، المجلة كلها جافة والعياذ بالله، لم أستطع المثابرة على اقتنائها لأن زوجتي لا تجد فيها شيئا يقرأ، ولا تؤاخذني فهذا قولها! أقول إني وجدت أحيانا فيما تكتب نقيض ما تقول الآن، ولكني لا أزعم أني أفهم كثيرا - وبيني وبينك ولا قليلا - مما تكتب، وبهذه المناسبة أليس من الأفضل أن تكتب كما يكتب الكتاب المحبوبون؟ لو فعلت لوجدت جمهورا كثيرا، ولربحت مالا وفيرا ..
في زمن مضى كان يحتقر مثل هذا الرأي في عناد وثورة، الآن ما زال يحتقره ولكن دون ثورة، لكنه يشك في هذا الاحتقار، لا لشبهة في أنه في غير موضعه، ولكن لأنه يرتاب أحيانا في قيمة ما يكتب، وربما ارتاب في ارتيابه نفسه، وسرعان ما اعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه قد ضاق بكل شيء ذرعا، وأن الدنيا تبدو أحيانا كلفظة قديمة اندثر معناها. - إنك لم ترض يوما عن عقلي!
نامعلوم صفحہ