144

43

هنا حديقة الشاي، سماؤها أفرع وغصون ريانة، ومرتاد النظر البط السابح في البحيرة الزمردية، والجبلاية فيما وراء ذلك. واليوم عطلة مجلة الإنسان الجديد، وها هي سوسن حماد تبدو رائعة في فستان أزرق خفيف كشف عن ذراعيها السمراوين، وهي آخذة زينتها ولكن في لباقة وحذر. وكان قد مضى على زمالتهما عام فجلسا متقابلين يضيء وجهيهما ابتسام التفاهم، بينهما مائدة عليها دورق ماء وكأسا دندورمة لم يبق فيهما إلا ذوب ثمالة الحليب المورد بالفراولا. «إنها أعز شيء لدي في هذه الدنيا، أدين لها بمسراتي جميعا وهي قبلة آمالي أيضا، ونحن زميلان مخلصان، لم ينطق الحب بيننا ولكنني لا أشك في أننا متحابان، ومتعاونان كأحسن ما يكون التعاون، بدأنا رفيقين في ميدان الحرية، وعملنا يدا واحدة، وكلانا مرشح للسجن، وكنت كلما نوهت بجمالها حملقت في وجهي محتجة وزجرتني مقطبة كأن الحب شيء لا يليق بنا فأبتسم وأعود إلى ما كنا فيه من عمل، ويوما قلت لها: «إني أحبك .. إني أحبك .. فافعلي ما بدا لك»، فقالت لي: «هذه الحياة هي الجد كل الجد وأنت تعبث»، فقلت لها: «إني مثلك أرى أن الرأسمالية في طور الاحتضار وأنها استنفدت كافة أغراضها، وأن على الطبقة العاملة أن تطلق إرادتها لتدور آلة التطور إذ إن الثمرة لن تسقط وحدها، وإن علينا أن نخلق الوعي ولكني بعد ذلك أو قبل ذلك أحبك» فقطبت تقطيبة متكلفة بعض الشيء وقالت: «إنك تصر على إسماعي ما لا أحب»، وشجعني خلو حجرة السكرتارية فهويت إلى وجهها فجأة ولثمت خدها فحدجتني بنظرة قاسية وأكبت على ترجمة ما تبقى من الفصل الثامن من كتاب نظام الأسرة في الاتحاد السوفييتي الذي كنا نترجمه معا.» - هذا الحر كله في يونيو فكيف إذا جاء يوليو وأغسطس يا عزيزتي؟ - يبدو أن الإسكندرية لم تخلق لأمثالنا!

فضحك قائلا: ولكن الإسكندرية لم تعد مصيفا، كانت كذلك قبل الحرب أما اليوم فالإشاعات قد جعلتها خرابا .. - الأستاذ عدلي كريم يؤكد أن أكثرية سكانها قد هجروها وأن طرقاتها ملأى بالقطط الهائمة على وجهها! - هي كذلك، وعما قريب يدخلها رومل بجيوشه ..

ثم بعد صمت قصير: وسوف يلتقي في السويس بالجيوش اليابانية الزاحفة على آسيا ويعود العهد الفاشستي كما كان في العصر الحجري !

فقالت سوسن في شيء من الانفعال: روسيا لن تنهزم، وإن آمال البشرية مصونة خلف جبال الأورال .. - نعم لكن الألمان على أبواب الإسكندرية!

تساءلت وهي تنفخ: لماذا يحب المصريون الألمان؟ - كراهة في الإنجليز، وسوف يمقتونهم في الغد القريب، إن الملك يبدو اليوم كالسجين ولكنه سينطلق من سجنه؛ ليستقبل رومل ثم يشربان معا نخب وأد الديمقراطية الناشئة في بلادنا، ومن المضحك أن الفلاحين يظنون أن رومل سيوزع الأرض عليهم! - أعداؤنا كثيرون، الألمان في الخارج، والإخوان والرجعية في الداخل، وكلاهما شيء واحد .. - لو سمعك أخي عبد المنعم لثار على رأيك، إنه يعتبر الإخوانية فكرة تقدمية تزري بالاشتراكية المادية .. - قد يكون في الإسلام اشتراكية، ولكنها اشتراكية خيالية كالتي بشر بها توماس مور ولويس بلان وسان سيمو، إنه يبحث عن حل للظلم الاجتماعي في ضمير الإنسان بينا أن الحل موجود في تطور المجتمع نفسه، إنه لا ينظر إلى طبقات المجتمع ولكن إلى أفراده، وليس فيه بطبيعة الحال أية فكرة عن الاشتراكية العلمية، وفضلا عن هذا كله فتعاليم الإسلام تستند إلى ميتافيزيقا أسطورية تلعب فيها الملائكة دورا خطيرا، لا ينبغي أن نبحث عن حلول لمشكلات حاضرنا في الماضي البعيد، قل هذا لأخيك ..

فضحك أحمد في سرور غير خاف وقال: أخي شاب مثقف وقانوني ذكي، إني أعجب كيف يتحمس أمثاله للإخوان!

فقالت بازدراء: الإخوان يصطنعون عملية تزييف هائلة؛ فهم حيال المثقفين يقدمون الإسلام في ثوب عصري، وهم حيال البسطاء يتحدثون عن الجنة والنار، فينتشرون باسم الاشتراكية والوطنية والديمقراطية.

حبيبتي لا تمل الحديث عن مبادئها، قلت حبيبتي؟! نعم فمنذ القبلة التي اختلستها دأبت على أن أدعوها بحبيبتي وكانت تحتج بالكلام تارة وبالإشارة تارة أخرى، ثم جعلت تتجاهله كأنما قد يئست من إصلاحي، وعندما قلت لها إني تواق إلى سماع كلمات الحب من ثغرها المشغول بالاشتراكية وبختني قائلة باحتقار: «هذه النظرة البرجوازية العتيقة إلى المرأة .. هه؟!» فقلت لها جزعا: إن احترامي لك فوق كل كلام، وإني أعترف بأني تلميذك في أنبل ما صنعت في حياتي ولكنني أحبك كذلك، وما في ذلك من بأس. فذهب غضبها فيما شعرت ولكنها استبقت مظاهره فيما رأيت، واقتربت منها مضمرا تقبيلها فلا أدري كيف حزرت غرضي فدفعتني في صدري، ولكنني رغم ذلك لثمت خدها، وما دام المحذور قد وقع - وقد كان بوسعها منعه جديا - فقد اعتبرتها راضية، وإنها لكائن بديع جميل العقل والجسم معا رغم إغراقها في السياسية، وعندما دعوتها للنزهة في الحديقة قالت «على شرط أن نأخذ معنا الكتاب لنواصل الترجمة»، فقلت لها: بل للفرجة والمناجاة، وإلا كفرت بالاشتراكية جميعها! ولعله مما يزعجني كثيرا حيال نفسي المتشبعة بالسكرية أنني ما زلت أنظر أحيانا إلى المرأة بالعين التقليدية البورجوازية فيخيل إلي في بعض ساعات التقهقر والخور أن الاشتراكية عند المرأة التقدمية ليست إلا نوعا من الفتنة كضرب البيانو والتبرج، ولكن من المسلم به كذلك أن العام الذي زاملت فيه سوسن قد غيرني كثيرا وطهرني لدرجة محمودة من البورجوازية المستوطنة في أعماقي! - من المؤسف أن زملاءنا يعتقلون بلا حساب! - نعم يا حبيبتي، الاعتقال موضة تشيع أيام الحروب وأيام الإرهاب على السواء، غير أن القانون لا يرى بأسا في اعتناق المبدأ إذا لم يقترن بالدعوة إلى العنف ..

فضحك أحمد وقال: سيلقى القبض علينا إن آجلا وإن عاجلا إلا ...

نامعلوم صفحہ