صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
اصناف
أضف إلى هذا أن قصص أيسكولوس إنما تنقل نثرا وهي في اليونانية شعر. وللشعر اليوناني كغيره من كل شعر في اللغات الأخرى جمال خاص، مصدره الألفاظ الشعرية والوزن، وما بين الأبيات والمقطوعات من صلة. وكل هذا شيء ليس من سبيل إلى أن ينقل من لغة إلى لغة. فكما أن مطولة امرئ القيس يمكن أن تترجم إلى الفرنسية فيؤدي المترجم معناها أحسن الأداء ويتخير لذلك أجمل الألفاظ والأساليب الشعرية في اللغة الفرنسية. ولكنه يعجز عن أن يشعر القارئ الفرنسي بما لهذه القصيدة من جمال شعري عربي؛ فإن نقل أيسكولوس وغيره من الشعراء الممثلين في العصر القديم والحديث، لن يستطيع أن ينقل من آثارهم إلا جزءا من جمالها الفني، ربما كان أقل أجزائها بهجة وروعة.
لذلك لا ينبغي أن يتخذ قراء التراجم ما يقرءون من الشعر المنقول مقياسا لجمال هذا الشعر، ولا أن يحكموا عليه بما تبعث هذه الترجمة في نفوسهم من أثر حسن أو سيئ؛ فإن هذا الحكم باطل من أصله، وما كان غرض الناقلين للشعر من لغة إلى لغة أن ينقلوا إلى قرائهم منه صورة حقيقية. وإنما ينبغي أن يكون الغرض تمكين هؤلاء القراء من أن يلموا به بعض الإلمام وحمل من أتيح لهم الوقت والقوة على أن يتعرفوه ويجدوا في أن يستقوه من منبعه.
3
تأثر أيسكولوس فيما كتب بالشعر القصصي، فاختار منه موضوعات قصصه من غير أن يتكلف الاختراع أو إحداث خلق جديد، وكان يقول إنه يكتفي بما سقط من مائدة هوميروس.
وقد قدمنا تعليل ذلك. ولكن هناك وجها آخر من وجوه تأثير الشعر القصصي في فن أيسكولوس، ولا بد من الإشارة إليه، نريد تأثيره في تشكيل أشخاص قصصه التمثيلية.
فقد كان هذا الشعر لا يحفل بتفصيل ما لأبطاله من خلق ووصف ما يبعثهم على العمل من عاطفة، وإنما كان يجتزئ بجملة أو بعض جملة يشخص بها البطل من أبطاله، أو الإله من آلهته تشخيصا قويا لا يحتمل الشك ولا يقبل التردد. وأمثال هذه الجمل وأجزاء الجمل كثيرة منتثرة في الإلياس والأوديسا فقد كان يكفي لتشخيص أوديسيوس وصفه بأنه يعدل ذوس حيطة وحذرا، فلا ترى هذا البطل في كتاب من كتب هاتين القصيدتين إلا رأيته في جميع أعماله وأقواله، بل في تحدثه إلى نفسه ومناجاته إياها إلا حذرا رشيدا، لا ينطق بكلمة، ولا تصدر عنه حركة، ولا تجول في نفسه فكرة، إلا قد قدرها وحسب لها حسابا.
كذلك فعل أيسكولوس في قصصه، فلم يحاول أن يطيل حوار الممثلين أو غناء الجوقة فيما من شأنه أن يصف أخلاق أشخاصه أو يحلل عواطفهم. وإنما كان يكتفي بأن ينطق أحد الممثلين بجملة تخلق شخصه وتضيف إليه كل ما يتصف به من صفته.
فإذا خلق البطل من أبطاله بخطة جرى بها قلمه، فهذا البطل مشبه لنفسه في جميع أجزاء القصة، لا تنقصه صفة من صفاته الأولى، ولا تعرض له صفة جديدة لم تكن له من قبل.
انظر إليه في بروميثيوس مغلولا: كيف مثل بطله في أول القصة عنيدا قوي الشكيمة لا يذعن ولا يخضع، ثم انظر إلى هذا البطل في جميع أجزاء القصة كيف احتفظ بهذه الخصلة، فلم ينزل عنها قيد شعرة على كثرة ما ألحت عليه الجوقة في ذلك، وعلى شدة ما فدحه من حادث وما نابه من خطب.
إنه ليشكو ويألم. ولكن شكاته وألمه لا يصدران عنه إلا ليصفا ما يملأ نفسه من إصرار على العناد، ومضي في الصبر والاحتمال، ومقاومة كبير الآلهة. ثم لا يزال كذلك حتى تصعقه الصاعقة وتلتهمه الأرض.
نامعلوم صفحہ