صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
اصناف
انظر إلى هذا كله، ثم اقرأ تاريخ الأثينيين في القرن الخامس تجده ممثلا فيه تمثيلا صحيحا؛ إقدام شديد ولكن ملؤه القصد والتؤدة، فإذا أسرفوا أو طغوا لم تلبث عاقبة ذلك أن تحيق بهم وتردهم من الحزم والأناة إلى ما كانوا قد تعودوه.
كانت نفس أيسكولوس ساذجة لا تألف التعقيد ولا تميل إلى التعمق، وإنما تأخذ الأشياء كما تجدها في الخارج لا تغيرها ولا تحورها. فلم يكن إبداعه في التمثيل ناشئا من تناوله للأشياء بزيادة فيها أو نقص منها. وإنما كان مصدره صفة نفسية أخرى، أثرها في الحياة الشعرية عظيم. هذه الصفة هي شدة التأثر بالأشياء وتحويلها بمجرد الشعور بها إلى صور ليست بالغريبة، ولكنها قادرة على استهواء النفوس وامتلاك القلوب، لا تكاد تلقى إلى الجمهور حتى تخرجه عن طوره المألوف، وتملك عليه حسه وشعوره وتجعله يعيش مع الشاعر في عالم جديد من الصور يراها بعين الشاعر، ويحسها بحسه، ويتأثر بها كما كان يتاثر بها الشاعر نفسه.
فما كان أيسكولوس يكاد يبدأ تمثيل قصة من قصصه حتى يستأثر بالجمهور وينقله من حياة إلى حياة، وحتى يشعر هذا الجمهور بأنه في بيئة لم يألفها، وأنه يتقدم في طريق ليس له بها علم. فلا بد من أن يقفو أثر الشاعر ويتبعه فيها خطوة خطوة حتى يصل إلى الأمل الذي تنتهي إليه القصة؛ ذلك على أن هذه الطرق ليست بالمعوجة ولا المتعرجة، ولا بذات الثنايا والمضايق.
كان أيسكولوس يبدأ قصته بقطعة من الحوار أو الغناء تشير إلى موضوعها إشارة ليست بالخفية كل الخفاء ولا بالواضحة كل الوضوح، فتقف الجمهور موقف الحيرة والدهش؛ لأنها تنبئه بأن حادثا مجهولا - ولكنه ذو خطر - يوشك أن يقع ثم ينتقل به وقد أعد نفسه لما يريد وهيأها لقبول ما سيمثل من هذا الموقف إلى موقف آخر أدنى إلى الوضوح ولكنه لا يكشف عما اشتملت عليه القصة، وما يزال ينتقل به متمهلا من مرحلة إلى مرحلة وقد ملك عليه نفسه وشعوره، واستأثر بما لديه من تنبه والتفات، حتى ينتهي به إلى ما كان يريد أن يجلو بين يديه من فكرة أو صورة كانت في أول القصة ضئيلة شديدة الغموض فما زالت تعظم وتتضح حتى أصبحت في آخر القصة عظيمة كالعالم مشرقة كالشمس تغمر الجمهور وتحيط به وتكرهه على أن لا ينظر إلا إليها ولا يفكر إلا فيها.
ثم لم يكن أيسكولوس على سذاجته وقصده ليسلك بجمهوره كل هذه الطريق من غير أن يريحه ويروح عنه من حين إلى حين، على ألا ينسيه موضوع القصة ونمو حوادثها، فكان يضع في أثنائها هذه المقطوعات الغنائية تتغنى بها الجوقة غير مهملة موضوع القصة، ولكنها غير ملحة فيه تضيف إليه من وصف الطبعية ومحاسنها، ومن تحليل النفس الإنسانية ودقائقها، بل ومن تكهن بما عسى أن تنتهي به القصة ما ينفس عن الجمهور ويحمله هو أيضا على أن يقاسم الجوقة إعجابها وتأملها وتنبؤها، فهو حين يسمع المقطوعات معلق بين ما مضى من القصة وما هو آت منها. وإنه لكذلك إذ يأتي أحد الممثلين فيذود عنه هذه الراحة ويقوده في طريقه إلى حيث كان يريد الشاعر.
فإذا أردت أن تعرف علام كانت تشتمل هذه الطريق دهشت؛ لأنك لا ترى فيها شيئا ينكره الحس أو ينبو عنه العقل، وإنما كلها صور قد ألفناها منفردة وليس هناك من جديد إلا هذا التأليف الذي جمع بينها وقرن بعضها إلى بعض، وربما استعان أيسكولوس بما له من قوة التصور وشدة التأثر بالصور على أن يدرك الفرق بين صورتين متناقضتين أشد التناقض متباعدتين أشد التباعد فيمثل هاتين الصورتين أحسن تمثيل، ويحمل الجمهور بمهارته وقوة نبوغه على أن يشعر بهذا الفرق والتناقض كأنه يلمسه وأن يتأثر به أشد ما يمكن من التأثر.
انظر إليه في أجاممنون كيف مثل أجاممنون ملكا عظيم القوة ضخم السلطان، قد قاد اليونان إلى النصر وقهر بهم مدينة قوية منيعة، ثم أقبل على عجلته ظافرا تحفه الجلالة والمهابة، تتبعه ابنة الملك أسيرة ذليلة، فبهرت هذه الصورة جمهور النظارة ثم دخل الملك قصره يمشي على بساط أرجواني قد بعد ما بينه وبين البشر، وقرب ما بينه وبين الآلهة، وما هو إلا أمد قصير حتى يعود الملك إلى هذا الجمهور، ولكن مهابة أخرى تحفه وتحيط به هي مهابة الموت: جثة هامدة قد لفت في ثوب مضرج بالدماء وإلى جانبه امرأة كانت منذ حين تتملقه وتتلطف له وتهدي إليه من الثناء باقات حسنة التنسيق بديعة التنظيم، وهي الآن تمقته وتزدريه، بل تلعنه وتستنزل عليه السخط، والجوقة بينهما تتردد بين الغضب والخوف.
أليس في هاتين الصورتين ما يكفي ليبهر الجمهور، فيملأه إعجابا بما تمثل الصورة الأولى من جلال وعزة، ثم يروعه فيملأه ذعرا وإشفاقا لما صار إليه هذا الجلال في أمد قصير.
لم يكن أيسكولوس يحب الانتقال الفجائي من نقيض إلى نقيض وإنما كان يهيئ النفوس إلى هذا الانتقال ويسلك بها طريقه رويدا رويدا كما قدمنا، فيجمع بذلك بين ما كان يحرص عليه من التأثير القوي في نفس الجمهور وعدم مفاجأته بالمتناقضات حتى لا يناله الإنكار ولا يحول الدهش بينه وبين الفهم والاستفادة مما يقع بين يديه.
قراءة آثار أيسكولوس في أصلها اليوناني لازمة كل اللزوم لنشعر بقوته الفنية وقدرته النادرة على اختيار الألفاظ والتنسيق بينها. فهناك صور لا بد من التلطف وإتقان الحيلة لنقلها إلى لغة أخرى. ثم هي إذا نقلت مع شدة الاحتياط والحرص على الأمانة في النقل فقدت شيئا غير قليل من جمالها الفطري، ولم يشعر به قارئ الترجمة.
نامعلوم صفحہ