صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
اصناف
وجدب الأرض وضنها بما فيها، كان سببا في أن كل شعب قد اضطر إلى أن يجد ويعمل، فيظهر ما امتاز به من مزايا وخصال.
وكان مكان هذه الشعوب بعضها من بعض في هذه الأرض غير السهلة ولا الخصبة، حاملا لها على أن تتعاون وتتظاهر ويشد بعضها أزر بعض فما أسرع ما قام الأمن والوفاق بينها مقام الخوف والافتراق. ومع هذا فهي لم تؤلف أمة واحدة متصلة الأجزاء، متماسكة القوى، إلا بعد أن أقامت منتثرة متفرقة زمنا غير قليل.
سلكت إلى هذا سبيلا واضحة جلية، فأخذت هذه الطوائف تتعاون وتتناصر على حياتها الاقتصادية لتستثمر الأرض من جهة، وعلى حياتها السياسية لتدفع عنها شر المغير من جهة أخرى. فنشأت في أتيكا قبائل تصل بينها الحلف والمعاهدات. ثم أخذت هذه القبائل تتقارب وتتدانى قليلا قليلا. وأخذت حياتها الاقتصادية والسياسية تتوحد وتتماس أجزاؤها حتى أصبحت أقرب ما تكون إلى الوحدة، فظهرت في ذلك الوقت قرية من القرى امتازت من غيرها بالثروة وشدة البأس، فما أسرع ما ضمت هذه القبائل وألفت منها شعبا واحدا، بل مدينة واحدة وهي مدينة أثينا.
3
تعاونت طبيعة الأرض والإقليم وموقعها الجغرافي وطبيعة السكان، على أن تكون من أهل أتيكا شعبا ممتازا كل الامتياز، من الشعوب اليونانية الأخرى، فمع أن هذا الشعب قد كان يزعم نفسه يونيا، فقد كان يمتاز من اليونيين بصفات مقصورة عليه، لم يشاركه فيها غيره من القبائل اليونية في آسيا.
ذلك لأن الشعب - كما قدمنا - كان يتألف من شعوب كثيرة أكثرها يوناني وأقلها آسيوي، فجمع إليه خلاصة ما لهذه الشعوب من فضيلة، ولأن الأرض كانت كما قدمنا مجدبة من غير أن تكون صحراء، فقد كانت تجري فيها غدران ضيقة ضئيلة، تجف إذا اشتد الحر ولكنها كانت تبل الأرض. فتنبت فيها قليلا من القمح والشعير وشيئا من الكرم والتين والزيتون. ولم تكن تخلو من المعدن وغيره من مصادر الثروة، فقد كانت فيها مناجم للفضة ومحاجر للمرمر أغنت أهلها وفضلتهم على غيرهم أكثر من مرة، وكان الإقليم فيها معتدلا جافا ليس هجيره بالمحرق ولا برده بالقارس. ليست بكثيرة السحاب، وليس لها بالضباب عهد، فالهواء فيها خفيف شفاف، وضوء الشمس والقمر فيها مجلو بديع حين تسقط أشعته على البحر أو على الصخور العارية المختلفة الألوان، ذلك إلى أن موقعها الجغرافي من البحر كان يهيئها لتكون إقليما تجاريا بحريا قبل كل شيء.
ظل شعب أتيكا بمعزل من الحياة اليونانية المضطربة عصرا غير قليل لم يشترك فيما كان يملؤها من حرب ونزاع، ومن خلاف وفرقة. بل أخذ يستحيل ويتطور شيئا فشيئا - إن صح هذا التعبير - وقد تمت له هذه الاستحالة بأقل ما يمكن من ثورة وعنف، فانضمت قبائله المختلفة، وكونت دولة واحدة من غير حرب، وعاشت هذه الدولة في ظل الملوك حينا، ثم في ظل الأرستقراطية يقرب نظامها من النظام الملكي في أول الأمر، ثم يدنو من النظام الجمهوري قليلا قليلا، حتى جاء «سولون» فأخذت الديمقراطية تظهر وتعلن وجودها وقدرتها على الحياة. ثم قام «بيزستراتيدس» فاستأثر بالحكم وتبعه ابناه من بعده. وفي عصرهم أظهر هذا الشعب أنه هو الشعب اليوناني الذي ستأوي إليه حضارة اليونان وقوتهم، فتجد عنده مأوى أمينا ومعقلا حصينا. في هذا العصر جمعت الإلياس والأوديسيا ودونتا بعد أن محصتا وبرئتا من الزيادة والاختلاف. وقبل اليونانيون كافة جمع أثينا وتمحيصها، فكان ذلك أول اعتراف لها بالسلطان الأدبي والتفوق العقلي على اليونان جميعا.
زالت من أتيكا دولة الطغاة سنة عشر وخمسمائة قبل المسيح. وقامت فيها ديمقراطية معتدلة منظمة لم يعهدها العالم القديم.
ولم يكد يمضي على هذه الديمقراطية عشرون سنة حتى أظهرت أنها نافعة مغنية، وأنها إنما نشأت لتسلك بالإنسانية سبيلا جديدة؛ فقد كانت حروب الفرس التي كادت تلتهم اليونان فتقضي على كل ما كان للإنسانية حينئذ من حياة عقلية لولا أن نهضت هذه الديمقراطية الأثينية فأنقذت اليونان مرتين: مرة في مراثون سنة تسعين وأربعمائة، ومرة في سلامين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم لم تزل بالفرس حتى زعزعت عرشهم وأضعفت قوتهم، وخفضت كلمتهم. وجعلتهم من الوهن والاضطراب بحيث استطاع الإسكندر أن يثل عرشهم. وبهذا الانتصار على الفرس ظهرت أثينا واعترف اليونان لها بالسلطة والتفوق السياسي. فأصبحت زعيمة الإغريق في كل شيء. ولن يستطيع الناس أن يقدروا هذه الزعامة قدرها، ويعرفوا ما قامت به للأدب والفلسفة خاصة، وللحضارة المدنية عامة؛ من خدمة قد يعجز عن أن يصف خطرها الواصفون .
4
نامعلوم صفحہ