وعلى الرغم من أن عدد القصائد التركية التي كتبها سلطان يتضاءل أمام أشعاره المكتوبة بالفارسية، التي تناهز أربعين ألف بيت شعري، فإن وجود هذه القصائد التركية يعد دليلا على أن الصوفيين في فترة العصور الوسطى سعوا حثيثا إلى الوصول إلى الجماهير التي لا تتقن اللغة العربية أو الفارسية. وكانت هذه الاستراتيجية ناجحة؛ لأنه من خلال التحول إلى أنماط التعبير المحلية - لا سيما أنواع الشعر والغناء الشفهية والمعتمدة على الأداء - تمكن الصوفيون من الوصول إلى قطاع أكبر من الجمهور يفوق ما كان من الممكن أن يصلوا إليه دون استخدام هذه الطريقة؛ فاكتسبوا أتباعا ليس فقط من سكان المدن ومن المتعلمين، وإنما أيضا من الأميين البدو والفلاحين الذين تعرفوا على الإسلام أولا من خلال كلمات الصوفيين.
ملخص
في الوقت الذي تزايد فيه استخدام الصوفيين للغات المحلية الأكثر سهولة لاستعراض التفاصيل الأدق لأفكارهم، استمر الصوفيون المتعلمون في كل المناطق في استخدام اللغة العربية. وبعد فترة مبكرة سيطرت عليها الرسائل القصيرة والكتيبات الأكثر طولا، ندخل بعد القرن الثاني عشر فترة توسع فيها الإنتاج الأدبي الصوفي المكتوب بالعربية من حيث الطول والأنواع الأدبية؛ ففي اللغة العربية واللغة الفارسية المساعدة لها، أسفر التوسع في اللغات المحلية غير المكتوبة عن غزارة أدبية هائلة تمثلت، على سبيل المثال لا الحصر، في السير، وأدلة زيارة المقامات، والمكتوبات، والملفوظات، والقصائد الملحمية، واليوميات الخاصة بالأحلام. وعلى صعيد الأنواع الأدبية والصعوبة، وكذلك الطابع العام والموضوع، فإنه فيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر أصبحت المصطلحات والمفاهيم الأساسية، التي تكونت في أولى فترات تطور الصوفية، أكثر تنوعا على نحو كبير، بحيث صارت تلبي احتياجات نطاق أكبر بكثير من المسلمين عبر المناطق والطبقات الاجتماعية المختلفة وتعكس عوالمهم. إلا أن الصوفيين عند التوسع من الاستخدام المبكر للعربية إلى استخدام الفارسية واللغات الأكثر محلية غيروا أيضا، على نحو فعال، متطلبات الالتحاق بطرقهم، من المعرفة الدقيقة بالقرآن وطرق الذكر والخلوة الخاصة إلى منهج أكثر سهولة بكثير، تطور من غناء الأغاني المحلية التي كتبها يونس إمره، ووصل إلى التفكير في تفسيرات للقصص الرمزية التي كتبها العطار. وعلى غرار شائعات المعجزات التي انتشرت بين زوار أضرحة الأولياء الصوفيين، فمع مرور الوقت تمكنت الأنواع الشعرية هذه المنقولة شفهيا من اختراق خيال العوام، وتشكيله على نحو لم يستطعه القرآن. ونظرا لأنه مع مرور الوقت أصبحت العربية لغة القرآن أكثر بعدا عن لغات الإسلام الكثيرة المتحدث بها، فقد ساهمت الأغاني وأضرحة الصوفيين في رأب المسافة المتزايدة بين المؤمن وزمن نزول الوحي على النبي محمد. وبالنسبة إلى أعداد المسلمين المتزايدة في مناطقهم البعيدة، فقد كان ما يعرفونه عن الإسلام هو ما نقل لهم عبر ألسنة الصوفيين في مجتمعاتهم ومقابرهم.
ومن ثم، كان تبجيل الأولياء - الذي من خلاله تميز الصوفيون في العمارة والطقوس والسرد - الجسر الأساسي بين الصوفية كطريقة باطنية تنتمي لحركة محدودة حتما، مكونة من متطلعين روحانيين ملتزمين، وبين الصوفية كمنهج متجدد يفي بالاحتياجات الدينية لمناصرين عددهم هائل. ولما كان الأولياء الصوفيون «المقدسون» ذوي مكانة عالية ومن الممكن التواصل معهم عبر أضرحتهم التي يسهل الوصول إليها، فمن الممكن أن يكونوا وسطاء بين القوة البشرية المحدودة النطاق وبين قوة الله غير المحدودة. وهذا الترتيب الذي أعيد إنتاجه في أبنية الأضرحة من المغرب حتى تركستان كان مفيدا للفلاحين قدر ما كان مفيدا للسلاطين؛ حيث أسهم كل منهما في نفقات الأضرحة، مما وضع الصوفيين في أنماط المبادلة التي ربطتهم بجماعات المناصرين لهم، عن طريق شبكة جمائل متبادلة. ونظرا لبعد هذه التطورات عن نموذج الصوفية كمسعى تصوفي شخصي للاتحاد مع الله؛ فقد اعتبرت في وقت ما إيذانا بنهاية الصوفية «الحقيقية» في فترة العصور الوسطى. إلا أن هذا التفسير يعد إغفالا للفكرة الأساسية للولاية والاستراتيجيات الاجتماعية التي من خلالها تمكن الصوفيون من البقاء وإعادة إنتاج تقليدهم عبر الزمن؛ فالأضرحة لم تكن مؤسسات منفصلة عن غرف التربية ومساكن الإيواء وأماكن الخلوة التي كان يحدث فيها «التصوف»، بل كانت عنصرا في مجمعات أكبر يشترك فيها الزوار اليوميون والصوفيون الدائمو الإقامة. ومن المنطقي أن نعتقد أن هذه الأضرحة المقدسة الموجودة في تلك المجمعات مثلت الواجهة العامة الجامعة للزوار للمجتمعات الأوسع نطاقا، التي اعتمد عليها الصوفيون في الحصول على الدعم المادي.
كما رأينا، فإن تقديس الصوفيين لم يأت من فراغ بل استند إلى أسس عقائدية في النظرية التي نوقشت في كتابات الصوفيين المبكرة، التي تقول إن لله أولياء. وفيما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر، استخدمت هذه الأفكار القديمة، بصفتها مصادر للتقليد، من أجل تفسير طريقة اجتماعية دينية قائمة على «حكومة خفية» هرمية محددة، مكونة من الواجدين الأولياء. ومن المنطقي اعتقاد أن تطور تبجيل الأولياء نتيجة منطقية للاستثمار المادي المتزايد في هذه الأيديولوجية، الذي حدث مع اكتساب الصوفيين أتباعا كثيرين من النخب بداية من القرن الثاني عشر فصاعدا، من خلال تحالفهم مع الحكام البدويين المستقرين في الشرق، ومناصري حركة الإحياء السنية من الحكام في الغرب. وهذا التقديس لم يحدث في حالة فراغ مؤسسي، بل رافق الخدمات العامة للصوفيين كأولياء خدمات أخرى أكثر خصوصية للطرق الجديدة التي حدث فيها التقديس كجزء من النتيجة المباشرة للبناء المؤسسي، الذي من خلاله نال مؤسسو الطرق التقديس عن طريق تبجيل أعضاء الطرق لهم. وعملت آليات التقديس والتقليد على نحو متوافق؛ حيث تطلبت المكانة المرموقة للمعرفة والبركة المتوارثتين عبر سلاسل شيوخ الطرق أن تعتبر كل شخصية في السلسلة من الأولياء، وإلا فستصبح سلسلة الأولياء غير كاملة، وتصبح المعرفة والبركة المنقولة عبرها غير ذات قيمة؛ ومن ثم، فإن منطق التقليد - واستخدامه للأساس المفاهيمي للطرق - أصبح في حد ذاته دافعا لإنتاج الأولياء.
مثلت الطرق الصوفية - باعتبارها مؤسسات تنظيمية ومفاهيمية مرتبطة بمجمعات الأضرحة الذائعة الصيت والمدرة للمال - وسيلة لربط أفكار وممارسات الصوفيين بالجماعات الفعلية التي يمكن زيادة توسيع عضويتها من خلال طقوس الالتحاق البسيطة التي تتم على يد شيخ. وعلى الرغم من أنه سيكون من الخلط الزمني اعتبار أن هذه الطرق تشبه المؤسسات الحديثة ذات الهرميات المتكاملة، التي تتمتع بوسائل اتصال فعالة بين مراكزها الجغرافية العديدة، فإن هذه الطرق في عملها كشبكات مفاهيمية (وإن لم تكن تنظيمية دائما)، تمكنت من تكوين مؤسسات متماثلة (وإن لم تكن مترابطة بالضرورة) في البيئات الكثيرة المختلفة التي عاش فيها مسلمو فترة القرون الوسطى. ومن خلال إعادة إنتاج هذه المؤسسات المتماثلة عبر مسافات تقدر بآلاف الأميال، خلقت هذه الطرق آليات تفاعل وترابط ومزاملة بين المسلمين، الذين كان سيتزايد تفرقهم بسبب الخلاف السياسي والاختلاف العرقي لولا هذه الطرق. ومن خلال صنع هؤلاء الأولياء والطرق ووصفهم بالمصطلحات العربية نفسها في مناطق بعيدة، مثل خليج البنغال وساحل شمال أفريقيا المطل على المحيط الأطلنطي، جعل الصوفيون الإسلام ملموسا في بيئاتهم المحلية ومتسقا عبر العالم الأوسع نطاقا. وبهذه الطريقة، جعلت هذه التطورات الصوفية جزءا لا يتجزأ من الإسلام نفسه، بالنسبة إلى ملايين عديدة من مسلمي فترة القرون الوسطى .
الفصل الثالث
الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
(1) تمهيد
في الفصل الثاني، رأينا نفوذ وامتداد الصوفيين ينتشر في عدة اتجاهات اجتماعية وجغرافية. ونظرا لأن الصوفية تراوحت ما بين سلاسل من النظم الماورائية والأغاني المؤلفة باللغات المحلية والشبكات الاجتماعية والحماية عن طريق المعجزات، فإن الأمور المختلفة التي كانت تعنيها في فترة العصور الوسطى ضمنت قبولها بين أوساط الأمراء والفلاحين، والبدو والحضريين، والمتعلمين والأميين. وبطبيعة الحال، فإن هذا الانتشار المؤثر للأشخاص والممارسات كان يعني وجود منتقدين لأنواع معينة من الصوفية وممارسيها، وكان أشهر هؤلاء المنتقدين العالم الشامي ابن تيمية (المتوفى عام 1328). إلا أن هذه الانتقادات كانت إلى حد كبير موجهة لجوانب معينة - ومتعلقة بالجماهير بصفة خاصة - من تبجيل الأضرحة، وليس إلى البناء الماورائي والأخلاقي الكامل المرتبط بالأولياء. كان ابن تيمية عنيفا بصفة خاصة في انتقاده للموالد التي تقام حول مقابر الأولياء الصوفيين؛ إذ اعتبرها «بدعة» منحرفة عن السنة النبوية.
نامعلوم صفحہ