86
وكما هو الحال في التوجه نحو إضفاء الطابع الاجتماعي على زهاد الحدود المحاربين والكرامية الزاهدين في الدنيا؛ ففي محاولة الصوفيين إعادة توجيه عنف الطبقة الدنيا الخاص بالفتوة وعصابات «العيارين» المرتبطة بهم في مدن وريف خراسان، يمكن أن نرى انعكاسا للحل الوسط المتمثل في الدعوة للأخلاق التي سعى لها صوفيو بغداد، وهذا الانعكاس يتلاءم جيدا مع حقيقة أن كثيرا من كبار الصوفيين في خراسان كانوا أعضاء في الطبقة الحاكمة الحضرية الفقهية وصاحبة الأملاك.
87
النوع الآخر المهم من الكتب التي ظهرت في هذه الفترة كان ما يعرف باسم «كتب الطبقات».
88
وسواء أكان هذا النوع من النصوص في صورة كتاب منفصل، أم في صورة جزء من كتاب أكبر، فقد شهدنا فيه أخيرا ظهور «تقليد» صوفي كامل التطور، محدد بالوعي الذاتي التاريخي لأفراده؛ إذ كانت تلك الكتب وسيلة نصية اكتسبت من خلالها الأنواع الحاضرة من المعرفة الصوفية وممارسيها الشرعية والمكانة؛ من خلال تقديمهم باعتبارهم ورثة لتقليد تسلسلي يصل بسلسلة غير منقطعة عبر الأجيال إلى النبي محمد. من الناحية النصية، تضمنت تلك الكتب تجميعا (وفي بعض الأحيان، يمكن أن نقول اختلاقا) لأخبار الشخصيات التي تربط كل «طبقة» (جيل). في هذا الصدد، كان يوجد عملية ابتكار لتقليد تطلبت تقديم الزهاد والصالحين شبه الأسطوريين المنتمين للقرنين السابع والثامن على أنهم صوفيون، وإظهار أن التعاليم الصوفية نفسها هي المعتقد الأصلي للنبي محمد، المنقول عبر العصور.
وكما هو متوقع، فقد مال كتاب كتب الطبقات هذه إلى إنهاء سلسلة التلقي عند شيوخهم ومن ثم أنفسهم. ومنذ ابتكار هذا النوع الأدبي أخذت تتكرر تلك العملية في كل مرة تكتب فيها نسخ جديدة من تلك النصوص. وهذا الإجراء المتكرر جعل التقليد يمثل نوعا من رأس المال الرمزي المنقول، الذي يستطيع ربط النبي محمد والصوفيين الأوائل في بغداد بخراسان في القرن الحادي عشر، بالسهولة نفسها التي يربطهما بها بالهند في القرن التاسع عشر، أو بأي زمان ومكان يكتب فيه شخص عن سيرة التقليد. إلا أنه في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، عندما كتب أبو عبد الرحمن السلمي في خراسان وأبو نعيم الأصفهاني (المتوفى عام 1038) في وسط إيران أقدم كتب طبقات خاصة بالصوفية باقية، قامت كتب الطبقات بعمليتين أساسيتين؛ أولا: نتيجة لمعرفة الصوفيين بأساليب تعلم النصوص الدينية، فقد اقترضوا من علماء الحديث الطريقة التي من خلالها تحققوا من المعرفة الموثوق فيها بكلام محمد، من خلال «سند» الرواة الذي يعود للنبي محمد نفسه. وقد استنسخ الصوفيون هذا السند في سلاسل السند التي استخدموها لتوثيق كلمات أسلافهم، وفي تصورهم عن «سلسلة» تضم قائمة بشيوخ كل طريقة. ثانيا: كانت تلك الكتب حلقة الوصل بالماضي المبجل للتطور الأحدث عهدا لروابط الولاء والالتحاق بين الشيوخ والمريدين. ومن خلال تكوين سلاسل سير تربط الصوفيين في الأزمان اللاحقة والأماكن البعيدة بالرجال الذين يعتبرونهم أسلافهم الأتقياء، طمأنت كتب الطبقات الصوفيين على أن معتقداتهم وممارساتهم هي تلك التي وصى بها النبي محمد بنفسه، لا أحد غيره. وبين النبي محمد في مكة وأمثال السلمي في نيسابور، كان هناك أمثال الجنيد في بغداد قبل بضعة أجيال، الذين أضحت سيرهم وكتبهم المتذكرة الآن مصادر لتكوين التقليد الصوفي.
89
في هذا الإطار أيضا، وبالكتابة في خراسان التي كان الملامتية فيها ما زالوا يحظون بقدر كبير من الاحترام، أمكن دمج ذكريات الملامتية المحلية الممتعة في هذا الماضي المتذكر، الذي طمست فيه المنافسة بين الحركات المختلفة. ونتيجة لذلك، أضيف شيوخ الملامتية في سلاسل الصوفية، وأسقط تاريخهم المميز؛ حيث أصبحت النصوص لا ترى الملامتية إلا كمجموعة فرعية منبثقة عن الصوفية.
90
نامعلوم صفحہ