وعلى الرغم من ذلك، شهدت تلك الفترة في شمال أفريقيا اكتساب الطرق الصوفية ثروة جديدة عندما لعبوا دورا بارزا في التجارة المزدهرة بين أوروبا وشمال أفريقيا والصحراء الكبرى؛ مما جعل قادتها من أكثر الشخصيات ثراء ونفوذا في مجتمعاتهم. ولما كانت الطريقة النصيرية تتمتع بأعضاء تجمع بينهم الثقة المتبادلة، فضلا عن انتشارهم على نطاق واسع، فقد استخدمتهم كشبكة لها، وأدارت جزءا كبيرا من التجارة الأوروبية عن طريق فرض رسوم لحماية القوافل التجارية، ونشر معلومات حول السوق وظروف السفر، والتحكم في التواصل مع النخب السياسية؛ واستثمرت الثروة التي جنتها بدورها في شراء الأراضي أو إقراض الأموال.
168
وعن طريق توفير شبكات ثقة وتواصل وائتمان واسعة النطاق - سواء عن طريق الطريقة النصيرية في شمال الصحراء الكبرى، أو عن طريق تجار قبيلة كنتة في مناطق جنوب الصحراء الكبرى المنتسبين إلى الطريقة القادرية - عملت الطرق الصوفية كآليات تمكين للتجارة المتزايدة عبر الصحراء الكبرى التي ربطت أفريقيا بأوروبا.
169
وفي الوقت نفسه، كانت طرق التجارة هذه طرقا للمعرفة أيضا، نقل من خلالها الصوفيون تعلم اللغة العربية، ومناهج الطريقة النصيرية المتمثلة في الدراسة الفقهية والصوفية، إلى مستوطنات الواحات التي أصبحت حاليا موريتانيا ومالي والنيجر والسودان.
170
وفي صحراء السودان الكبير ومناطق ضفاف النيل بها، نجد بعضا من أبرز تفاعلات الصوفيين مع بيئاتهم المحيطة في هذه الفترة؛ إذ شهد القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر توسعا كبيرا في النفوذ الصوفي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الذي من خلاله أصبح التراث القديم للصوفيين المتعلمين والأولياء المستقلين مندمجا في الشبكات والأنساب الممتدة عبر مناطق متعددة، التي تخص طرقا مثل الطريقة القادرية.
171
وعلى الرغم من أن هذه الشبكات كانت عشوائية بعض الشيء، فقد كانت قادرة على ربط أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالممارسات والجدالات الناشئة في شمال أفريقيا ومصر وأفريقيا. وحدث هذا التوسع للطرق نحو الجنوب عن طريق دمج أنسابها وتعاليمها في الهياكل الاجتماعية والجماعات التعليمية الموجودة، وخضعت الانتماءات الصوفية المتعددة المناطق للتعديل بما يتماشى مع السياقات المحلية، عن طريق الجماعات القبلية وعائلات العلماء، وزاد انتشار الانتماءات الصوفية عبر طرق التجارة التي عبرت الصحراء الكبرى وربطت سكانها بشمال البحر المتوسط. وكما هو الحال بالنسبة إلى الطرق الأخرى المتعددة المناطق مثل الطريقة النقشبندية، لم تكن هذه العلاقات الجديدة مركزية، وظلت فعليا حتى القرن التاسع عشر فروعا مستقلة. وخلال منتصف القرن السابع عشر، انتشرت الانتماءات الأفريقية للطريقة القادرية على يد تاج الدين البهاري، الذي كان من بغداد في الأصل، وحاول ضم العائلات السودانية الكبيرة الموجودة إلى الطريقة القادرية.
172
نامعلوم صفحہ