سوڈان
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
اصناف
ويقول بنتام: «إذا كنت تريد أن تكسب قوما، فيجب عليك أن تجعلهم يعتقدون أنك تحبهم، وأن الطريقة المثلى هي أن تحبهم حبا صادقا.» ويقول ماكميكل: «إذا كان هذا القول حقا فإنه من جهة أخرى لا يمكن أن تؤسس المحبة على الجهل وسوء التفاهم. وعلى الإداري الذي يريد أن يكون ناجحا في إدارته أن يتجمل بالصبر وسعة الحيلة، وأن يبحث عن العادات الحسنة التي تكون مختبئة في الأساليب الوطنية، وأن يحاول بصبر أن يفهم أماني الوطنيين وآمالهم، وأن يبحث عن حاجاتهم، وأن يعرف لماذا يشعرون بها ويريدونها، قبل أن يشرع لهم. وقد وصل إلى هذا تمكن الإداري من استغلال الأساليب المحلية والعادات لما هو مفيد وسام.»
ويقول الأستاذ بولارد في الفصل السادس من الجزء الثاني من «تاريخ كامبردج الحديث»: «جميع الحكومات - سواء أكانت مدنية أم دينية - تقوم على أساس واحد، فليست قوتها في أنها توافق العقل والصواب والقانون. ولكنها تستمد قوتها من العادة ولا يكون الحكم ممكنا إذا أغفلت العادات التي تسبق القانون، والتي عندما تثبت في النفوس تصاغ بصيغة القانون. والقتل والاعتداء وجرائم الخيانة والسرقة والغش جرائم محتقرة عند الأوربيين والسودانيين على السواء.»
كانت أساليب نظام القبائل هي المتبعة في السودان قبل فتح محمد علي 1821. ولم يشأ الحكم المصري في السودان أن يتدخل في نظام القبائل، وقد ترك لمشايخها أكثر ماكان لهم من السلطة على أن ينفذوا الأوامر التي تصدر إليهم، وأن يحصلوا الضرائب، وعلى أن لا يقوموا بأي عمل مضر بمصالح الحكومة.
عندما أعيد فتح السودان، كان إدارته وحفظ الأمن فيه عسكريا، وكان لا يزال ماثلا لأذهان الحكام حوادث المهدية. وكان سلاطين باشا الذي عين مفتشا عاما للسودان محل ثقة الحاكم العام سير رجنالد ونجت باشا،
3
وكانت آراؤه محترمة ونافذة. ولكونه احتمل ضروبا من الأذى وصنوفا من الإرهاق والذل والهوان وهو في الأسر، ظل ذهنه مطبوعا بآثار ما عانى واحتمل، وظل يذكر الحوادث السابقة، وكان قد انتهى إلى عقيدة لم يتحول عنها، وهي أنه يجب أن لا يسمح لأحد من السودانيين أن يكون زعيما دينيا أو قبليا، وأن لا يسمح لأية شخصية في السودان أن تظهر وأن تنمو. وقد ظلت هذه الفكرة في أثناء وجود سلاطين باشا من سنة 1899 إلى 1914، حيث عاد إلى بلاده النمسا وقامت الحرب وترك منصبه.
ويقول مستر ماكميكل: «إنه وإن كانت هذه الفكرة صحيحة إلا أنه يجب الاعتراف بأن هناك حقيقة، وهي أنه ما دام للإنسان وجود على الأرض فسيوجد دائما رجال يبرزون، وإن بروزهم لا يكون غير معقول أو شيئا في غير محله. وفضلا عن ذلك فإن الناس يفضلون أن يكون لهم زعماء ولا ينتظر منهم أن يقنعوا بغير ذلك.»
وقد أحدثت الحرب ونتائجها تغييرا في الحكومات. وقد وجدت حكومة السودان أن من الضروري إحداث تغيير في طريقة حكمه. وقد جاء في تقرير سير لي ستاك - الحاكم العام للسودان - عن 1921: «لقد اتخذت خطوات كثيرة منذ ابتداء سنة 1921 لانتهاج سياسة مقتضاها السماح للوطنيين «أهالي السودان» بنصيب في إدارة شؤونهم ومساعدتهم على احتمال المسئوليات. وقد نفذت هذه السياسة بوسائل مختلفة لتحقيق هذا الغرض: فقد انتخب أهالي السودان وعينوا في بعض وظائف معينة ونيطت بهم أعمال إدارية مباشرة. ومن جهة أخرى وضع تشريع خول للمشايخ الوطنيين بعض السلطات على أفراد قبائلهم.» والتشريع المشار إليه قد وضع سنة 1921 وووفق عليه سنة 1929، ورئي أن تكون سلطة المشايخ بارزة في الميدان القضائي أكثر من السلطة التنفيذية، وثانيا أن الأمر الصادر بهذا وصف بأنه تنظيم لسلطة المشايخ، وذكر فيه أنه منذ زمن بعيد كان لمشايخ القبائل البجوية سلطة معاقبة رجال قبائلهم والفصل في المنازعات التي تقوم بينهم، وأنه قد رئي تنظيم استعمال هذه السلطات. وجعل أقصى ما يمكن الحكم به من الغرامة في الجرائم الكبيرة التي يفصل فيها الشيخ مع أعضاء محكمته غرامة أقصاها 25 جنيها إنكليزيا، والجرائم الصغرى رخص للشيخ أن يحكم فيها وحده بإذن من المدير، وأن يكون أقصى الغرامة عشرة جنيهات، ولم يرخص لهم بإصدار أحكام بالحبس، وقد نيط تنفيذ حكم الشيخ بواسطة الحكومة كما لو كان الحكم صادرا من محكمة قضائية عادية.
وفي سنة 1922 رئي القيام بتجربة في دار مساليت التي كان يحكمها سلطان من أهلها، والتي ضمت إلى السودان بمقتضى الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي سنة 1919. ذلك بأن ترك لهذا السلطان أن يدير الشئون الداخلية لمملكته الصغيرة تحت إشراف «مقيم بريطاني» ومن جهة أخرى خول رئيس الشلك «ريت» في النيل الأعلى شيء من السلطة. وأنشئت محاكم من المشايخ في المديريات الجنوبية للفصل في القضايا المحلية القليلة الأهمية.
وقد واصلت الحكومة السودانية هذه التجارب وقال الحاكم العام في تقريره: إنه قد أصبح لثلثمائة شيخ للقبائل البدوية وشبه البدوية سلطات تؤيدها سلطة الحكومة. وفي سنة 1925 وضعت ميزانية خاصة للإدارة الأهلية بدار مساليت ومنح لريق الدنكة في بحر الغزال محكمة مشايخ. وصدر قانون المحاكم القروية عندما عين سير جوفري آرشر خلفا للسير لي استاك في يناير سنة 1925، وواصل تحقيق هذه السياسة، ولكنه استقال بسبب صحته، وعين في 18 أكتوبر 1926 سير جون مافي حاكما عاما للسودان، وقد كان قبلا حاكما للإقليم الشمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة 1927 إنه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهلية وبتطبيق توصيات لجنة ملنر 1919 و1921 قد خول الأمر الصادر من مجلس الحاكم العام في سنة 1921 بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى، فالمحاكم العليا يعين رئيسها ونائب رئيسها وأعضاؤها التي تؤلف منها ويحد اختصاصها في العقاب وتختلف هذه السلطة، فهي أحيانا الحكم بالحبس لمدة سنتين والغرامة إلى مائة جنيه، وأحيانا بالحكم بالحبس لمدة شهر وغرامة خمسة جنيهات. أما في المحاكم الصغرى فتتراوح السلطة بالحكم بغرامة مبلغها جنيهان وعشرون جنيها مصريا. ولهذين النوعين من المحاكم اختصاص مدني واختصاص جنائي. وخول لمديري المديريات، بشرط موافقة الحكومة المركزية بأن يضعوا قواعد لسير هذه المحاكم وبأن يكون للمديرين والمفتشين حق مراجعة أي حكم تصدره محكمة أهلية، أو أن ينقلوا أية قضية إلى المحاكم العادية إذا رأوا ضرورة لذلك.
نامعلوم صفحہ