أولا:
سخرية من القارئ الساذج، الذي ستظل لكلمة «الله» ومركباتها هنا ارتباطاتها التقليدية في ذهنه.
ثانيا:
تنبيه القارئ الفطن تنبيها واضحا؛ فهو في هذا الموضع يكاد يقول: إنك تدرك طبعا أن من المستحيل أن أكون قد ناقضت نفسي بهذه الشدة وبهذه السرعة. فلا بد أن لي قصدا آخر، وإذا كنت قد طلبت منك، منذ قليل، ألا تصور الله بصورة البشر، ثم استخدمت في هذا الموضع تعبير «الأوامر الإلهية». فلا بد أنني أقصد هنا من تعبيرات: الأوامر الإلهية وطاعة الله وخدمته، أمورا مختلفة تماما تحل فيها التعبيرات السابقة تعبيرات أخرى هي: القوانين الطبيعية وفهمها ومسايرتها والرضاء بها ... إلخ؛ ولكني مضطر إلى استخدام التعبيرات الأولى حتى أسكت ألسنة الناقدين، وأنا واثق من أنك ستفهم، حينما تجد تناقضا صارخا كهذا، مقصدي الحقيقي على التو!
ففي حالة كهذه، إذن، تظهر بكل وضوح المشكلة الحقيقية في طريقة كتابة اسپينوزا، وهي أنه لم يأت في كتاباته بأفكار جديدة خارجة عن التراث فحسب، بل كان حريصا كل الحرص على أن يستخدم نفس اللغة والتعبيرات القديمة؛ أعني كان حريصا على أن يظهر كما لو لم يكن يخالف المعاني القديمة والتراث السائد. ونستطيع أن نقول إن طريقته هذه في الكتابة، إذا كانت ترمي إلى إبعاد أنظار العامة عن الاتجاه الحقيقي لتفكيره، فإنها في الوقت ذاته اختبار عسير يؤدي إلى تمييز «الصبية من الرجال» من بين قرائه! (3)
وفي الرسالة رقم 54 يقول اسپينوزا في صدد الحديث عن اتصاف الواقع بالضرورة المطلقة التي لا شأن لها بأحكامنا الخاصة: «وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها، أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة.» فالتعبير المستخدم هنا يعترف فيه صراحة بأن النظر إلى الأشياء في علاقتها بالله «مرادف» للنظر إلى الأشياء في ذاتها، أو بعبارة أخرى: للنظر إلى الأشياء في سياقها الضروري العام وسط الظواهر الطبيعية الأخرى (لا بالنسبة إلى ذهن الإنسان فحسب). وهنا اعتراف صريح من اسپينوزا بأنه يستخدم لغتين، إحداهما لاهوتية والأخرى علمية. (4)
وقرب نهاية تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، يرد اسپينوزا على المعترضين الذين يقولون: لو كانت كل الأشياء تتلو من الضرورة الإلهية، فلم لم يخلق الله الناس بحيث لا يسترشدون إلا بحكم العقل؟ فيقول في رده «إن هذا راجع إلى أن الله لم يكن يفتقر إلى المادة التي يخلق منها كل الأشياء، من أرفعها كمالا إلى أحطها، أو، إذا شئت أن أتحدث بمزيد من الدقة، فإن قوانين الطبيعة ذاتها كانت كثيرة إلى الحد الذي يكفي لإنتاج كل ما يمكن أن يتصوره ذهن لا نهائي ...»
هذا النص الصغير، ومعه النص السابق، أوجه إليه، بكل إخلاص، أنظار أولئك الذين يستنكرون - بشهامة - أن يكون اسپينوزا قد تحدث بلغتين؛ فهو هنا يذكر، في صراحة تغني المرء عن بذل أي جهد ذهني لفهم معناه الحقيقي، أن لديه طريقتين للكلام: طريقة يحدث بها الناس على قدر عقولهم، هي تلك التي يستخدم فيها التعبيرات اللاهوتية، وطريقة أخرى يستخدم فيها «تعبير الضرورة الطبيعية»، وإذا كان اسپينوزا في النص السابق قد جعل التعبيرين اللاهوتي والعلمي مترادفين، فإنه في النص الأخير يصدر تأكيدا غاية في الأهمية، وهو أن التعبير لعلمي هو «الأدق»، ولعل في هذا النص دليلا مباشرا كافيا على الاتجاه الحقيقي لميول اسپينوزا، في معرض المفاضلة بين لغتيه، أو بين «الوجهين الصوفي والعلمي» اللذين يمكن أن تفهم بهما فلسفته، على حد تعبير الشراح الآخرين الذين حيرتهم مشكلة المفاضلة بينهما. (4-2) إنكار الشراح لهوية المجالين
كان من المفيد، في رأينا، أن نبدأ بتقديم هذه الأدلة القاطعة على المعنى الحقيقي الذي استخدم فيه اسپينوزا جميع التعبيرات التي ترد فيها كلمة «الله»؛ فمثل هذه البداية تساعد كثيرا على تبين أوجه الخطأ لدى الكتاب الذين حاولوا أن يوجدوا فاصلا بين فكرتي الله والطبيعة عنده.
وهؤلاء الكتاب ينقسمون إلى فئتين؛ فئة تستبقي المعنى التقليدي لفكرة الله، وفئة أخرى تعترف بأن هذا المعنى قد تغير عند اسپينوزا، ولكنها تظل تسعى إلى إيجاد فارق بين فكرتي الله والطبيعة في فلسفته، وسوف نتناول الآن مثلة لهاتين الفئتين على التوالي.
نامعلوم صفحہ