51
ومن نتائج هذا الشرح أن براهين اسپينوزا على وجود الله لا تعود صحيحة إذا طبقت على الفكرة التقليدية عن الله، أو على أية حقيقة فيما عدا «الواقع الكلي» أو «مجموع التجربة». وهكذا فإن صحة الحجة الأنتولوجية تتوقف في رأيه، على «الطبيعة الفريدة لفكرة الله عنده، فإذا طبقت الحجة الأنتولوجية على أي شيء ما عدا النسق الكامل والفريد للتجربة، فإن نقد كانت لها يقضي عليها حتما ... أما حين نفسر لفظ «الله» على أنه يعني مجموع الواقع
Reality ... فعندئذ لا يكون في استطاعتك أن تمتنع عن تصور الله إلا إذا امتنعت عن التفكير أو الشك أو الشعور؛ أو بالاختصار، إذا امتنعت عن الوجود.»
52
ورغم ما أدخله «چويكم» في تفسيره هذا من تعبيرات مثالية فسر بها اسپينوزا من خلال مذاهب لم تظهر بعده إلا بزمان طويل، مثل «مجموع التجربة» أو «نسقها الكامل»، وهي تعبيرات تتمشى مع اتجاه «چويكم» العام في التفكير، فإن له مع ذلك فضل التنبيه إلى ضرورة الربط بين التفسير الممكن لطبيعة براهين اسپينوزا وبين المعنى الحقيقي المقصود من كلمة «الله»، ثم الإشارة إلى أن التفسير المتسق الوحيد هو ذلك الذي تعني تلك الكلمة فيه «مجموع الواقع»، بحيث تصبح الدلالة الحقيقية للبرهان هي أن افتراض أبسط وجود في هذا العالم يحتم التسليم بوجود «الواقع» أو الطبيعة في مجموعها.
وإذن ففي البراهين التي قدمها اسپينوزا لإثبات وجود الله، تتضح مرة أخرى تلك الحقيقة التي تكشفت لنا من قبل مرارا، وهي أن العبارات التي تحدث فيها اسپينوزا عن «الله» تظل متناقضة تناقضا أساسيا مع نفسها ومع سائر أوجه فلسفته طالما فهمت هذه الكلمة بمعناها الحرفي، ولكن هذا التناقض يزول، ويغدو كل شيء واضحا جليا، إذا استبدل بهذا الفهم الحرفي فهم آخر يصبح فيه اللفظ معادلا «لمجموع الطبيعة». وهنا أيضا يمكن أن يقال إن هدف اسپينوزا هو أن يثبت أن ما قاله الفلاسفة واللاهوتيون من قبل عن فكرة «الله»، يمكن أن ينطبق، بمزيد من الاتساق، على فكرة المجموع الكلي للأشياء.
أما أولئك الذين يأخذون هذه البراهين، بصورتها الحرفية، مأخذ الجد، ويرهقون أنفسهم في البحث عن صلات أو ارتباطات أو خلافات بينها وبين نظائرها لدى مختلف الفلاسفة المدرسيين، فليس لنا عليهم إلا رد واحد، هو: تأملوا جيدا جميع أطراف فلسفة اسپينوزا، ولا سيما الأوصاف التي عزاها، بطريقته الخاصة، إلى فكرة الله، وقولوا لنا بعد ذلك: على أي شيء كان اسپينوزا يريد بالفعل أن يبرهن؟ إن مقارنة اسپينوزا بالفلاسفة المدرسيين مهما تضمنت من شواهد على علم الشارح وسعة اطلاعه - تكشف في واقع الأمر عن سذاجة في العقل لا حد لها؛ فقد كان هؤلاء المدرسيون الوسيطيون يريدون فعلا البرهنة على وجود كائن عال على العالم، يتصف بالخير ويوجه العالم نحوه، بحيث يكون مسار العالم ذاته غائيا ومستهدفا قيما بشرية، وتلك كلها معان رفضها اسپينوزا رفضا قاطعا صريحا، فإذا جاء بعد هذا الرفض القاطع الصريح واستخدم نفس حججهم، فلا مفر للمرء عندئذ من أحد أمرين: أن يقول إن اسپينوزا بلغ من التناقض حد البلاهة التي لا تليق بفيلسوف، أو أن يستخلص لبراهينه الأنتولوجية دلالة مختلفة كل الاختلاف عن كل دلالاتها السابقة، ترتبط بمجموع فلسفته وتتمشى مع اتجاهها العام، ومن المؤسف أن أكبر شراح اسپينوزا قد وقعوا في الخطأ الأول، ولم يعبئوا حتى بأن يسألوا أنفسهم عن محتوى تلك الحقيقة التي يفترض أن اسپينوزا يستخدم من أجل إثباتها هذه البراهين الموروثة عن العصور الوسطى، مع أنهم لو قارنوا بين محتوى تلك الحقيقة عنده ومحتواها عند اللاهوتيين لأدركوا على التو أن استخدام كل هذه الحجج التقليدية إما أن يكون منطبقا على النظام الكلي للأشياء، أو لا يكون له، عدا ذلك، أي مكان في السياق العام لفلسفة اسپينوزا. (4) نطاق فكرتي الله والطبيعة
كانت النتيجة الواضحة التي أدى إليها بحثنا للأوصاف التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، وكذلك الأوصاف التي نفاها عنها، وتلك التي أدخلها على الفكرة مخالفا بذلك كل تراث سابق - هي أن التفسير المتسق لفكرة الله عنده هو ذلك الذي يجعلها في هوية مع مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء. كذلك أدى البحث في براهين وجود الله عنده إلى نتيجة مماثلة؛ فإخفاق هذه البراهين ليس، في رأينا، راجعا إلى تهاون عقلي أو تناقض منطقي في تفكيره، وإنما هو راجع إلى أن الموضوع الذي كان يبرهن عليه مختلف كل الاختلاف عن ذلك الموضوع الذي سعى الفلاسفة المدرسيون إلى البرهنة عليه، بحيث يكون اسپينوزا متناقضا مع نفسه بالضرورة إذا فسرت كلمة «الله» عنده بمعناها الحرفي، ولكنه يكون متسقا تمام الاتساق إذا ما نظر إلى هذه البراهين على أنها محاولة منه لكي يثبت - بلغة لاهوتية تقليدية - أن وجود الطبيعة ضروري قديم وأن مجرد تصورها يستتبع حتما القول بوجودها، وأنها هي ما لا تتصور ماهيته إلا موجودة.
والنتيجة التي ينبغي أن يخلص إليها المرء من هذا كله هي أن اسپينوزا لم يتخل عن نزعته التحليلية الدقيقة في هذا المجال بدوره، وأنه حرص كل الحرص على أن يستبعد كل فكرة عن كائن عال على الطبيعة أو متحكم فيها وهو منفصل عنها، أو موجه لها نحو غاية تفهم على مثال غايات الإنسان؛ فكل فكرة لدينا عن مثل هذا الكائن ينبغي أن ترد إلى مجموع الطبيعة ذاتها، من حيث إنها الحد النهائي الذي يفهم من خلاله كل تفكير وكل وجود.
ولقد أدرك بعض شراح اسپينوزا هذا المعنى لفكرة الله عنده بوضوح، وإن يكن الكثير منهم لم يستخلص - للأسف - كل متضمنات التفسير الصحيح الذي انتهوا إليه، مثال ذلك أن «موريس كوهن» يقول في مقال سبقت الإشارة إليه: «إذا كان ثمة شيء يتضح من كتاب «الأخلاق»، فذلك هو رفض اسپينوزا لكل نوع من التأليه المشبه بالإنسان؛ فالقول إن لله أية صفات شخصية كالإرادة أو العقل البشري، وأنه يسلك من أجل غاية واعية هي تحقيق ما هو خير لنا؛ هذا القول ينكره اسپينوزا مرارا بكل شدة، ومن الواضح أن اسپينوزا كان يعني من لفظ «الله» ما نسميه اليوم بعالم الواقع الذي هو موضوع كل علم، ونسق الطبيعة أو ترابطها الضروري.»
نامعلوم صفحہ