وقد حذره الطبيب من أن ذلك سيجر عليه مشاكل ضخمة؛ إذ سيقال إنه ينكر وجود إله، وأنه يستبدل به الطبيعة، وهي لفظ أليق بالمخلوق منه بالخالق. فوافق اسپينوزا على هذا التغيير، وظهر الكتاب على النحو الذي نصحه به ماير. وفي وسع المرء أن يدرك بسهولة، عند قراءة ذلك الكتاب، أن لفظ الله ليس إلا لفظا وهميا، إن جاز هذا التعبير ، يستخدمه لتضليل القارئ.
هذه الرواية باطلة دون شك، وذلك على الأقل في الجزء الذي جاء فيه أن الكتاب قد «ترجم» إلى اللاتينية؛ إذ إن اسپينوزا قد ألفه باللاتينية مباشرة دون شك، ومع ذلك فإن صحة الرواية أو بطلانها ليس هو المهم في الأمر، وإنما المهم هو أن معاصري اسپينوزا، أو الأجيال التالية له مباشرة، قد فهمت المقصد الحقيقي لاسپينوزا أفضل مما فهمه كثير من الكتاب المحدثين؛ فالرواية ذات دلالة رمزية على الاتجاه الحقيقي لفكر اسپينوزا. ومن الصعب أن نتصور أن اسپينوزا قد «أضاف» لفظ «الله» فيما بعد بناء على نصح أو تحذير قدم إليه، ولكن الدلالة الهامة للرواية هي أن من الممكن حذف لفظ «الله» من كتاب اسپينوزا الرئيسي والاستعاضة عنه بلفظ «الطبيعة» (وهو أمر لا يخالف تعاليم اسپينوزا ذاته، بل هو استجابة مباشرة لمعادلته المشهورة: الله = الطبيعة)، دون أن يستتبع ذلك أي تناقض؛ أي إن من الممكن، بعبارة أخرى: تفسير فلسفة اسپينوزا تفسيرا متسقا (بل «أكثر» اتساقا، في الواقع، من معظم التفسيرات الشائعة)، إذا جعلت الفكرة الرئيسية فيه هي فكرة الطبيعة، لا فكرة الله، فإذا كان هذا هو مغزى تلك الرواية، فإن القائلين بها (حتى لو كانوا قد اختلقوها) قد فهموا اسپينوزا على نحو أفضل من فهم معظم الكتاب المعاصرين له.
وإنه لمن الأمور التي تدعو إلى الدهشة حقا أن يكون فهم معاصري اسپينوزا، على بساطتهم العقلية، أفضل كثيرا من فهم الكتاب الحاليين له، رغم كل ما يتميزون به من علم أغزر وتجارب أعمق. ويعلل «ليوشتروس» ذلك بأنه راجع إلى أن ظاهرة التخفي في التعبير عن الآراء
exotericism ، وأسباب هذا التخفي، كادت أن تصبح منسية تماما،
13
وهذا تعليل عميق؛ إذ إن المرء إذا كان منتميا إلى مجتمع يكون من الضروري فيه إخفاء الآراء المخالفة للتقاليد الدينية أو الاجتماعية أو السياسية السائدة، يغدو أقدر على كشف المعاني الخفية من وراء التعبيرات المستترة للآخرين؛ فالمجتمع الذي عاش ظاهرة الصراع الفكري والتخفي والاضطهاد، أقدر على قراءة ما بين السطور من ذلك الذي نسي هذه الظاهرة وتخلص منها. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك تعليلا آخر، هو أن تدين نقاد اسپينوزا من معاصريه كان تدينا مباشرا لا يعرف التواء ولا تحويرا؛ فالمتدين كان متعصبا لعقيدته بصورتها الحرفية، وكان يدرك بسليقته كل ما لا يتنافى مع هذه الصورة الحرفية ولا يتردد في نقده. أما مفكرو اليوم، ولا سيما ذوو النزعات الدينية منهم، فإنهم قد اعتادوا الأساليب الملتوية المطاطة في التفسير، وهي الأساليب التي تتيح لهم تأويل أي نص يتعارض مع حرفية العقيدة على نحو كفيل بتقريبه، بأكثر الطرق تصنعا، من فهمهم الخاص للدين. بل إن فهمهم هذا ذاته قد وسع وحور بحيث يمكنه أن يتفق مع أي مذهب هو في نظر المنطق السليم مضاد للعقائد في صورتها الأصلية. وهذا ما جعل المحدثين يجدون دائما في فلسفة اسپينوزا ما يتفق مع العقائد الشائعة، بعد تأويلهم لتلك الفلسفة وتحويرهم لهذه العقائد. وفي هذا، دون شك، إساءة لفهم اسپينوزا من وجهة نظر التفسير الموضوعي السليم.
إن مشكلة تفسير فكرة الله عند اسپينوزا هي، في رأينا، مشكلة المفاضلة بين الألفاظ والمعاني. فلغة اسپينوزا تبدو نقية ورعة متمشية مع كل التقاليد الدينية الشائعة في عصره. ولكن معانيه تسير في طريق مخالف لذلك كل الاختلاف؛ إذ تهدم الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها ذلك التراث الديني الشائع. وهنا يكون على المرء أن يفاضل بين أخذ الألفاظ بمعانيها الحرفية، فيكون عليه حتما أن يصف اسپينوزا بالتناقض، وبين مراعاة المعاني الأصيلة في فلسفته، والتخلي عن حرفية الألفاظ وتطويعها لما تقتضيه هذه المعاني، وعندئذ يزول كل تناقض، وتبدو فلسفته متسقة من بدايتها إلى نهايتها.
ولقد أشار اسپينوزا، في أكثر من موضع، إلى سوء فهم العامة لفكرة الله، فقال مثلا: «ليس لدى الناس معرفة لله تماثل في وضوحها معرفتهم للأفكار العامة؛ إذ إنهم يعجزون عن تخيل الله مثلما يتخيلون الأجسام، وهم أيضا يربطون بين لفظ الله وبين صور الأشياء التي اعتادوا رؤيتها، وهو ما يبدو أمرا لا مفر منه؛ إذ إنهم بعد كل شيء بشر، وهم يتأثرون دواما بالأجسام الخارجية. والحق أن من الممكن إرجاع كثير من الأخطاء إلى هذا الأصل؛ أعني كونهم لا يطلقون الأسماء على الأشياء بطريقة دقيقة ... وكم ثار من الخلاف بسبب عدم إيضاح الناس معانيهم بدقة، أو عدم فهمهم معاني الآخرين على النحو الصحيح.»
14
وإذن فقد كان اسپينوزا يربط ربطا واعيا بين الخلاف حول فكرة الله وبين نظرة الناس إلى علاقة الألفاظ بمعانيها. ونستطيع أن نقول إنه عندما وضع منهجه الهندسي، واستخدم ما أسميناه من قبل بطريقة «المعادلات» في التعبير عن معانيه الحقيقية، كان يقوم باختبار لقدرة العقول على متابعة المعاني الجديدة التي غلفت في ألفاظ مألوفة لها في أذهان الناس ارتباطات انفعالية قوية، أو قدرتها على فهم فلسفته ذات الاتجاه العلمي الواضح من وراء القوالب المدرسية أو اللاهوتية التي صيغت بها، ولكن الذي حدث هو أن مجرد الاحتفاظ باللفظ التقليدي قد دفع معظم الأذهان إلى الاحتفاظ بالمعاني التقليدية كلها، أو على الأقل، إلى الرجوع إليها من آن لآخر بطريقة لا شعورية، مخالفة في هذا كله تعاليم مؤلفها نفسه.
نامعلوم صفحہ