ولا جدال في أن الطرف الثابت في هذا الترادف، عند اسپينوزا، هو الواقع، والطرف الذي يرد إلى الآخر هو الكمال، فليس لهذه العبارة أية صلة بالنظريات التي تجعل الكمال صفة من صفات الواقع أو تضفي على الكمال دلالة أنتولوجية، بل إنها، على العكس من ذلك، ترمي إلى تأكيد أن ما نسميه كمالا أو نقصا إنما يرجع إلى نظرتنا الخاصة إلى الأمور، وأن الأشياء لا تحمل من الصفات إلا ما هو واقعي فيها، وكل ما عدا ذلك من صنعنا نحن.
ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة تعبيرا أوضح في مقدمة الباب الرابع من الأخلاق، فيقول: «ليس الكمال والنقص إلا طريقتين في التفكير، أو فكرتين، نكونهما عن طريق مقارنة أفراد النوع الواحد بعضهم ببعض؛ وعلى ذلك ... فأنا أعني بالواقعية والكمال شيئا واحدا ... فبقدر ما ... نجد أن بعض [الأفراد] لديها من الوجود أو الواقعية أكثر مما لدى غيرها، نقول، إلى هذا الحد، إن بعضها أكمل من بعضها الآخر، وكذلك فبقدر ما ننسب إليها أي شيء ينطوي على السلب - كالحد، والنهاية، والاختلال ... إلخ - نسميها، إلى هذا الحد، ناقصة؛ لأنها لا تؤثر في ذهننا بقدر ما تؤثر الأشياء التي نسميها كاملة، لا لأن فيها أي نقص كامن، أو لأن الطبيعة قد أخطأت؛ ذلك لأن طبيعة الشيء لا تنطوي إلا على ما يتلو من ضرورة طبيعة علته الفاعلة، وكل ما يتلو من ضرورة طبيعة علته الفاعلة يحدث بالضرورة.» والمقصود هنا بما يتلو من ضرورة العلة الفاعلة الشيء، الصفات الواقعية أو الفعلية لهذا الشيء، والتي هي وحدها المنتمية إلى ماهيته أو طبيعته. أما كل ما عدا ذلك من صفات فهو من صنعنا.
ولا شك أن القارئ يدرك أن المعنى الحقيقي لكلمتي: الكمال والنقص هنا، في ضوء المصطلح الفلسفي الحديث، هو فكرة «القيم». فالذي يعنيه اسپينوزا هو أن كل ما يتصوره الإنسان من قيم إنما هو من صنع الإنسان ذاته، وأن الأشياء في ذاتها ليست كاملة أو ناقصة، جميلة أو قبيحة، طيبة أو رديئة، وإنما هي واقعية تحدث كما تحدث. وتلك فكرة قد تبدو بديهية واضحة في نظر الكثيرين، غير أن تأمل نماذج الفكر البشري في مختلف عصوره يثبت أنها كانت أبعد ما تكون عن الوضوح في أذهان عدد لا يستهان به من كبار الفلاسفة بل والعلماء، والدليل على ذلك هو إقحام الأفكار الغائية في تفسير الظواهر الطبيعية، وهو أمر لم تتخلص منه علوم كثيرة حتى يومنا هذا (كعلم البيولوجيا مثلا).
ولو شئنا أن نتحدث عن تفسير لظهور القيم، عند اسپينوزا، لقلنا إن هذا التفسير إنما هو ضيق حدود الذهن الإنساني، وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها اللامتناهية. وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معين يتأمله من خلال أمانيه ورغباته الخاصة، ويفسره على أساسها، بينما لو كان قادرا على إدراك مجموع العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت هذه القيم التي صنعها تماما، ولظهر كل شيء على حقيقته جزءا من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون. «فحدود الطبيعة ليست هي قوانين العقل البشري، الذي لا يفعل شيئا سوى السعي إلى تحقيق الصالح الحقيقي للجنس البشري وحفظه، وإنما هي قوانين أخرى لا نهائية، تتعلق بالنظام اللانهائي للطبيعة الكونية، التي لا يكون الإنسان إلا ذرة منها، وتبعا لضرورة هذا النظام وحدها يتحدد وجود كل الكائنات الفردية وسلوكها على نحو ثابت؛ وعلى ذلك فكلما بدا لنا شيء في الطبيعة عجيبا أو ممتنعا أو شرا، فما ذلك إلا لأن معرفتنا بالأشياء جزئية، ولأننا في أغلب الأحيان جاهلون بنظام الطبيعة من حيث هي كل وإحكامها، ولأننا نريد أن يسير كل شيء وفقا لما يمليه عقلنا، مع أن ما يراه عقلنا شرا ليس في الواقع شرا فيما يتعلق بنظام الطبيعة الكونية وقوانينها، وإنما فيما يتعلق بقوانين طبيعتنا نحن وحدها، مأخوذة على حدة.»
54
وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلا في باب الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلا في مجال المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلما تعرض له شراح اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛ فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة رقم 54: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفا، لبدت لنا الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أن أجمل الأيدي تبدو شنيعة إذا ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلا عن بعد، حتى إذا ما اقتربنا منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلا، أن يعترف ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما يلائمنا نحن فحسب، بغض النظر تماما عن طبيعته الواقعية فيقول: «... إذا كانت الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة ...
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتا أو انسجاما. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام - وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقا لحالة ذهنه، أو على الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.»
55
نامعلوم صفحہ