2
وبعبارة أخرى: فما يبدو أنه قيود للحياة المدنية في ظل القانون، هو في واقع الأمر تحرر يفوق كثيرا ذلك التحرر الذي يتوهم البعض أنه يتحقق في حالة العزلة والتخلص من النظم والقيود.
وقد أشرنا إشارة موجزة، في الفصل الأخلاقي، إلى دفاع اسپينوزا عن مبدأ تقسيم العمل وحملته على حياة البداوة بما فيها من استقلال مزعوم يعجز المرء فيه عن تحقيق أهم مطالبه، وبالتالي عن تنمية شخصيته على الوجه الأكمل. وقد أورد اسپينوزا في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» آراء صريحة في هذا الموضوع، تقف في مصاف النظريات الحديثة في علم الاجتماع من حيث تأكيد أهمية تقسيم العمل الاجتماعي بالنسبة إلى حياة الإنسان الحديث: «إن تكوين المجتمع لا يفيد في الأغراض الدفاعية فحسب، وإنما يفيد أيضا في أمور عديدة، بل إن له ضرورة مطلقة من حيث إنه يتيح تقسيم العمل. ولو لم يقدم الناس مساعدة متبادلة بعضهم إلى البعض، لما توافرت لأحد القدرة أو الوقت اللازم لتزويد نفسه بما يلزم لعيشه ولبقائه؛ إذ ليس كل الناس صالحين بدرجة متساوية لجميع الأعمال، وليس في وسع أحد أن يتولى بنفسه إعداد كل ما هو في حاجة إليه. وأكرر القول إن القوة والوقت يقصران إذا ما تعين على كل شخص أن يحرث ويبذر ويحصد ويطحن القمح ويطهو وينسج ويطرز ... ناهيك بالعلوم والفنون التي لها بدورها ضرورة مطلقة لكمال الطبيعة البشرية وسعادتها. وإنا لنرى أن حياة الناس الذين يعيشون في حالة الهمجية الجهولة هي حياة بائسة أشبه بحياة الحيوان، ومع ذلك فهم لا يستطيعون الحصول على ضروراتهم الشحيحة التافهة دون مساعدة بعضهم لبعض إلى حد ما.»
3
ولا بد في كل مجتمع بشري من قانون ينظم العلاقات بين الناس؛ إذ لو كان العقل وحده - كما يقول اسپينوزا - هو الذي يسيطر على أفعال الناس، لما احتاجوا إلى قانون. غير أن الانفعالات والغرائز تتحكم في الجزء الأكبر من رغبات الناس؛ ومن هنا احتاج كل مجتمع إلى حكومة وقوانين لردع أفراده. وهكذا ينشأ التنظيم السياسي الذي هو في رأي اسپينوزا أعلى أنواع التنظيم: «فمن المؤكد أن واجبات المرء نحو وطنه هي أسمى الواجبات التي يستطيع أداءها؛ إذ لو أزيلت الحكومة لما بقي للإنسان من خير ... وعلى ذلك فكل واجب لنا نحو الجار يغدو جرما إذا ما عاد بالضرر على الدولة بأكملها، كما أن كل ما نفعله في سبيل حفظ الدولة لا يمكن أن يكون فيه إخلال بواجبنا نحو الجار، أو أي شيء سوى الولاء ... وعلى ذلك فالمصلحة العامة هي القانون الأعلى الذي ينبغي أن يخضع له كل قانون آخر، سواء أكان إلهيا أم بشريا.»
4
ويلاحظ في هذا النص أن اسپينوزا يؤكد أن مصالح المجتمع نفسه - كما يمثلها قانون الدولة - هي المرجع الأخير في كل شيء، وأن قانون الدولة يعلو على كل شريعة دينية، ولقد كان ذلك، بطبيعة الحال، تعبيرا عن اتجاهه الواضح إلى فصل الدين تماما عن الدولة، ثم إيثار مصلحة الدولة على كل مصلحة أخرى، بحيث لا تترك للسلطة الدينية أية قدرة على محاسبة الناس باسمها، متخطية في ذلك قانون البلاد؛ أي إن سلطة رجال الدين ينبغي أن تخضع لسلطة الحاكم. وقد يبدو هذا في نظر البعض مذهبا يجعل الدولة متسلطة على العقائد، ولكن الواقع أن هدفه الحقيقي مخالف لذلك تماما؛ فمن المؤكد أن تجربة اسپينوزا الخاصة مع ممثلي السلطة الدينية أفقدته الثقة بحكمهم تماما، وجعلته واثقا من أنهم يراعون مصالحهم الخاصة، لا المبادئ والمثل العليا، في أحكامهم. وهكذا حرص على إخضاعهم للسلطة المدنية تأمينا لنفسه ولغيره. ومن جهة أخرى فمثل هذا الخضوع للسلطة المدنية كفيل بعدم تغليب دين على دين، وضمان الحرية لجميع الأديان، بحيث لا يصبح لأحدها سلطة قاهرة قد يستغلها ضد أصحاب العقائد الأخرى. ولقد رأينا من قبل كيف أن اسپينوزا لم يكن يحفل كثيرا بالمظاهر الخارجية للعقائد الدينية، وكانت كلها تتساوى عنده طالما أنها تؤدي غرضها العملي على النحو الصحيح؛ ومن هنا كان إخضاعها للسلطة السياسية معناه قبول مختلف الآراء والمعتقدات على قدم المساواة في ظل قانون مدني متسامح مع كل أشكال العبادات.
وهكذا نرى أن فكرة فصل الدين عن الدولة لم تكن عنده من ذلك النوع الذي يترك فيه لكل من السلطة الدينية والحاكم الزمني مجاله الخاص الذي يكون له فيه سلطان كامل؛ فهو يريد من الدولة أن تشرف على كل شيء، بحيث تكون مصالحها دائما هي العليا.
5
فإذا اعترض عليه بأن أصحاب السلطة الزمنية قد يكونون أشرارا، بحيث لا نجد عندئذ من يحفظ معاني الخير والتقوى، فإنه يرد على هذا الاعتراض قائلا إنه يمكن أن يوجه بالمثل ضد رجال الدين؛ فهؤلاء أيضا بشر، وهم معرضون للخطأ، ولو كانوا أشرارا فلن نجد من يفسر لنا المعنى الصحيح للتقوى.
نامعلوم صفحہ