ومن الواضح في رأينا، أنه ليس لأحد أن يفكر في خوض ميدان التعليلات السيكولوجية إلا إذا تأكد قبل ذلك من المعنى الحقيقي لما يعلله، ومع ذلك فإن «فوير» قد افترض مقدما أن فكرة الحب الإلهي لها نفس معناها الحرفي التقليدي، وعللها على هذا الأساس. أما إذا تزعزع هذا المعنى التقليدي فإن كل هذه المحاولات السيكولوجية تنهار من أساسها. (ج)
أما ولفسون فيقول: إن إله اسپينوزا مشخص بالمعنى الذي يكون فيه الإنسان متجها إليه بالحب، ولكنه غير مشخص (وبالتالي مختلف عن الإله التقليدي) من حيث إنه لا يسلك تجاه الإنسان نفس هذا السلوك،
90
ومعنى ذلك أن ولفسون يتصور إله اسپينوزا على أنه «مشخص جزئيا»، أو من ناحية تطلع الإنسان إليه، مع أن اسپينوزا عندما انتقد فكرة التشخيص لم ينتقد منها وجها واحدا بعينه، بل انتقد جميع مظاهرها على الإطلاق.
هذه أمثلة للتخبط الذي يقع فيه كل من يريد الاحتفاظ بأية صلة، ولو كانت طفيفة، بين إله اسپينوزا وبين الإله التقليدي. وفي هذه الحالة أيضا تتضح فائدة التفسير الرمزي، أو غير المباشر، لفكرة الله عند اسپينوزا؛ فإذا فهمت فكرة الله على أنها تعني عنده النظام الضروري للكون، أو مجموع ما يعرف ، فإن الحب الإنساني لله يغدو، عندئذ، نوعا من حب الكون، أو تعبيرا عن سعي الإنسان الدائم إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة. وتبعا لهذا التفسير، يكون من السهل إلى حد بعيد فهم الطبيعة غير المتبادلة لهذا الحب؛ فكون الإنسان لا ينتظر من الله حبا متبادلا، معناه أنه يقبل هذا النظام الضروري للكون، أو هذا المصير، وإن يكن النظام الضروري ذاته لا يستهدف غاية بشرية، ولا يسعى إلى إرضاء الإنسان، بل لا يكترث به ويقف منه موقفا «سويا»، لا لشيء إلا لأنه ضروري. ومعناه - إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المعرفة - أن الإنسان، في الوقت الذي يظل فيه ساعيا إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة طوال حياته، لا يمكنه أن يبلغ هذا المثل الأعلى على الإطلاق، بل يظل في سعيه على الدوام، دون أن يحقق هدفه الكامل من المعرفة؛ أي دون أن تلبي المعرفة الشاملة مطالب ذهنه الطموح، وفي ظل هذا التفسير يغدو من أيسر الأمور أن ندرك كيف يكون الحب الإلهي «عقليا»؛ إذ إن علاقة المعرفة، أو الفهم أو الاتصال بالطبيعة الضرورية للأشياء، هي علاقة عقلية قبل كل شيء.
على أن رأي اسپينوزا في الحب الإلهي لا يقف عند هذا الحد؛ فإذا كان قد أكد، عندما تحدث بالمعنى الدقيق، أن الله لا يحب البشر، أو على الأصح أن البشر ينبغي ألا ينتظروا من الله حبا مبادلا لهم، فإنه يعود فيقول إن من الممكن التحدث، بمعنى آخر، عن وجود حب إلهي للإنسان، وتفكيره في هذا الصدد يتسلسل على هذا النحو.
فهو في القضية السادسة والثلاثين (من الباب الخامس نفسه) يقول: «إن حب الذهن لله عقليا، هو نفسه ذلك الحب الذي يحب به الله ذاته، لا من حيث هو لا متناه، بل من حيث إن من الممكن تفسيره عن طريق ماهية الذهن البشري، منظورا إليه في صورة الأزلية. وبعبارة أخرى: فإن الحب العقلي الذي يبديه الذهن لله هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله ذاته.»
وفي نتيجة هذه القضية يقول: «ويترتب على ذلك أن الله، بقدر، ما يحب نفسه، يحب الإنسان، وبالتالي، أن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليا، هما شيء واحد.»
والآن، جرب أن تفسر فكرة «الله» في هذه النصوص تفسيرا تقليديا، وسوف تجد مذهب اسپينوزا بأسره ينهار، ويشيع فيه التناقض بين النظرة الطبيعية المادية الصارمة والنظرة الصوفية الحالمة، ويصبح النص الواحد من هذه النصوص كافيا لهدم كل ما سبق أن قاله عن فهم الطبيعة من خلال فكرة القانونية والضرورة الشاملة. أما إذا طبق عليها التفسير الذي قلنا به، أعني التفسير الرمزي غير المباشر، فإن كل شيء يغدو واضحا مفهوما.
ذلك لأن التفكير صفة من صفات «الجوهر»؛ أي إنه حقيقة موجودة في النظام الكلي للأشياء. وتفكير الذهن في الله، كما سبق أن أوضحنا، يعني معرفة الذهن لكل ما يستطيع أن يصل إليه عن النظام الضروري للأشياء، وعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول - كما سبق أن أشرنا أيضا - إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتبدى من خلال الذهن البشري. وبعبارة أخرى: فإن التفكير البشري هو جزء من صفة (أو ظاهرة) التفكير العامة الموجودة في الكون، والقول إن الذهن البشري يسعى إلى فهم نفسه (إذا تذكرنا أن الكون، في وجه من أوجهه، هو أيضا صفة الفكر)، وسواء أقلنا إن الله هو مجموع ما يعرف، أو أنه تعبير آخر عن النظام الضروري للأشياء من حيث هو مثل أعلى للمعرفة البشرية؛ ففي كل هذه الحالات يمكن أن يقال إن الذهن في سعيه إلى كشف قوانين الكون، يعتمد تماما على الله (بالمعاني السابقة للكلمة)، وأن الفكر الكوني هو عندئذ الذي يسعى - في مظاهره الجزئية - إلى فهم نفسه، أو، باللغة التقليدية، إن الحب العقلي لله، من جانب الذهن، هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله نفسه؛ وعلى هذا الأساس وحده يمكن أن تفسر العبارة السابقة الشديدة الغموض: «إن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليا، هما شيء واحد.» فجميع التفسيرات التقليدية أو القريبة من التقليدية تخفق تماما في هذه الحالة؛ لأن حب الذهن لله عقليا من نوع مخالف لحب الله للناس تبعا لجميع الآراء التقليدية، أما في التفسير الذي تقترحه، فإن مجرد كون الذهن البشري يفكر، ويضع العلم غاية له، معناه أن صفة الفكر في الكون تمارس فاعليتها، ومعناه - حسب لغة اسپينوزا التقليدية - أن الله، في هذا الوجه المتناهي، هو الذي يفكر. وبعبارة أخرى: فممارسة الفاعلية الفكرية في الكون، وهي الممارسة التي تنتقل من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل، وتزداد تقدما وانتشارا على الدوام، لا تتم إلا من خلال الأذهان الفردية، التي هي جزئية بحق، ولكن سعيها الدائم، الذي يتجاوز نطاق الأفراد والأزمان، لا متناه بالمعنى الصحيح.
نامعلوم صفحہ