وحين يربط اسپينوزا بين فكرة الأزلية وفكرة الجسم، يضع تفرقة بين الجسم من حيث وجوده الحالي، الذي هو وجود زماني لا علاقة له بالأزلية، وبينه من حيث وجوده الضروري، الذي هو وجود أزلي: «إن كل ما يفهمه الذهن من منظور الأزل، لا يفهمه لكونه يدرك الوجود الفعلي للجسم، وإنما لكونه يدرك ماهية الجسم من منظور الأزل.»
83
هذه الماهية الجسمية الضرورية تتصف بأنها موجودة في الله: «ففي الله توجد بالضرورة، مع ذلك، فكرة تعبر عن ماهية هذا الجسم البشري أو ذاك من منظور الأزل.»
84
ومن الواضح أن معنى كلمة «الله» هنا هو «النظام الضروري للأشياء»؛ ففي ذلك النظام يندرج الجسم البشري الفردي ويتخذ صبغة الضرورة الناجمة عن اندماجه في الكل الشامل، الذي يتضمن فكرة «أزلية» عن كل من مكوناته، ويزداد هذا المعنى لفكرة الله اتضاحا من النص الآتي: «إننا ندرك الأشياء على وجهين: إما بوصفها موجودة في زمان ومكان محددين، أو بوصفها متضمنة في الله وناتجة عن ضرورة الطبيعة الإلهية، وكل ما ندركه حقيقيا أو واقعيا على هذا النحو الثاني، ندركه من منظور الأزل، وتكون أفكاره متضمنة للماهية الإلهية الأزلية اللامتناهية.»
85
وعلى ذلك فإذا قال اسپينوزا في القضية الثانية والعشرين «إن العقل البشري لا يفنى نهائيا مع الجسم، وإنما يتبقى منه شيء أزلي» - إذا قال ذلك؛ فهو أولا يقصد الجسم بمعناه المتحدد زمانيا ومكانيا، ويكون المقصود أن العقل؛ إذ يكون أفكارا عن ماهيات الأشياء - ومنها ماهية الجسم ذاته - تتجاوز نطاق وجودها الفعلي الجزئي، وبالتالي تتجاوز نطاق الوجود الفعلي الجزئي لجسمه هو ذاته، يمكن أن يعد بهذا المعنى أزليا بالنسبة إلى الجسم. ومع ذلك فليس لهذا البقاء الأزلي أية صلة بالاستمرار الزمني المعروف؛ لأن اسپينوزا، كما رأينا، قد استبعد كل هذه المعاني التقليدية منذ البداية.
وقبل أن أترك الحديث عن فكرة الأزلية أود أن أشير إلى ظاهرة لم يتنبه إليها أولئك القائلون «بتناقض» اسپينوزا؛ فهو في براهينه على هذه المجموعة من القضايا يردنا على الدوام إلى القضايا المادية الصريحة التي عرضها في الباب الثاني من كتاب «الأخلاق». وإنه ليكون من الغريب حقا، إذا كانت لهجة اسپينوزا قد تغيرت فجأة في الجزء الأخير بالحديث عن معان من بينها الأزلية، أن يلجأ للبرهنة على قضاياه في هذا الجزء إلى القضايا الواردة في أشد الأبواب السابقة مادية، ومن المؤكد أن مجرد استبقائه لقضايا الباب الثاني واعتماده عليها في براهينه على قضايا هذا الجزء، هو في ذاته دليل على أن المجرى الفكري متصل من أول الكتاب إلى آخره، وعلى أن من الواجب البحث عن تفسير آخر متسق لأفكاره ذات المظهر الصوفي في الجزء الأخير من الكتاب؛ لأنه كتب هذا الجزء وفي ذهنه أشد الأجزاء السابقة تعارضا مع كل نزعة صوفية أو لاهوتية. (5-3) فكرة الحب العقلي لله
في الرسالة رقم 21 رد اسپينوزا على رسالة سابقة بعث بها إليه «بلينبرج
Blyenbergh »، واتضح لاسپينوزا منها أن مراسله هذا يؤمن بكل الأفكار اللاهوتية التقليدية دون مناقشة أو تفكير، فقارن بين اعتقاده هو بأن الله لا يحمل صفات بشرية، وبين الاعتقاد العامي الذي يؤمن به «بلينبرج»، والذي يجعل الله يقوم بين الناس بدور القاضي، وقال: «إنني أنظر إذن إلى الأفعال حسب صفاتها، لا حسب قوة فاعلها، والثواب الذي ينجم عن الأفعال يتلو في رأيي منها بوصفه نتيجة لها، بنفس الضرورة التي يتلو بها من طبيعة المثلث أن مجموع زواياه قائمتان، ويكفي لفهم اعتقادي أن تدرك أن كل سعادتنا تنحصر في حب الله ، وأن هذا الحب يتلو بالضرورة من معرفة الله، وهي أنفس ما لدى البشر ... غير أني أعترف بأن كل من يخلطون بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية عاجزون عن بلوغ هذه المرتبة من الفهم.»
نامعلوم صفحہ