Social Solidarity
التكافل الاجتماعي
ناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
اصناف
مفهوم ونطاق التكافل الاجتماعي
يقصد بالتكافل الاجتماعي: أن يكون أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له أن عليه واجبات للآخرين وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم.
نطاق التكافل الاجتماعي:
إن المجتمع المسلم هو الذي يطبق فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة ونظاما وخلقا وسلوكا، وفقا لما جاء به الكتاب والسنة، واقتداء بالصورة التي طبق بها الإسلام في عهد الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين من بعده.
1 / 1
وعندما يلتزم المجتمع بهذه القاعدة يجد التكامل الاجتماعي مكانه بارزا في المجتمع بحيث تتحقق فيه جميع مضامينه، ذلك أن الإسلام قد اهتم ببناء المجتمع المتكامل وحشد في سبيل ذلك جملة من النصوص والأحكام لإخراج الصورة التي وصف بها الرسول ﷺ ذلك المجتمع بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» لذا فإن التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس مقصودا على النفع المادي وإن كان ذلك ركنًا أساسيًّا فيه بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع أفرادا وجماعات، مادية كانت تلك الحاجة أو معنوية أو فكرية على أوسع مدى لهذه المفاهيم، فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات داخل الأمة.
1 / 2
والتكافل الاجتماعي في الإسلام ليس معنيا به المسلمين المنتمين إلى الأمة المسلمة فقط بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مللهم واعتقاداتهم داخل ذلك المجتمع كما قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾؛ ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان حيث قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾
1 / 3
التكافل بين المرء وذاته:
الإنسان مسؤول عن نفسه أولا فهو مسؤول عن تزكيتها وتهذيبها وإصلاحها ودفعها إلى الخير وحجزها عن الشر. قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ كما أنه مسؤول عن حفظها ورعاية صحتها وتمتعها في حدود المباح. قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾
ثم إنه منهي عن إتلاف نفسه وإضعافها وتعذيبها فقد نهى الله تعالى عن الانتحار بقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ وقال رسول الله ﷺ: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا»
كما يحرم عليه تعاطي كل ما يؤثر على صحته أو عقله فإن من المقاصد العامة الضرورية للشريعة الإسلامية حفظ النفس والعقل والمال.
1 / 4
قال الله تعالى في الخمر: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾
1 / 5
التكافل داخل الأسرة:
لقد أكد الإسلام على التكافل بين أفراد الأسرة وجعله الرباط المحكم الذي يحفظ الأسرة من التفكك والانهيار.
ويبدأ التكافل في محيط الأسرة من الزوجين بتحمل المسؤولية المشتركة في القيام بواجبات الأسرة ومتطلباتها؛ كل بحسب وظيفته الفطرية التي فطره الله عليها قال رسول الله ﷺ: «الرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها» .
ويأتي تقسيم وتوزيع المسؤوليات داخل البيت بين الرجل والمرأة بما يضمن قيام الأسس المادية والمعنوية التي تقوم عليها الأسرة فالله ﷾ يخاطب أرباب الأسر رجالا ونساء بقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾
1 / 6
ولا تتم هذه الوقاية إلا بالتبصر بالحق وتعليم العلم النافع والإرشاد إلى أبواب الخير وهذا هو قوام التكافل العلمي والتثقيفي للأسرة، وهو مسؤولية مشتركة بين الزوجين فكلما وجد أحدهما في الآخر تقاعسا أو تقصيرا نبهه وأرشده إلى الصلاح والإصلاح. قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وقد حث الإسلام على تنمية الود والحب الغريزي بين الرجل والمرأة في حياتهم الزوجية فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾
وأرسى لتحقيق ذلك مبادئ وضمانات عديدة منها:
أ: حفظ الحقوق بين الزوجين:
قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾
ب: حسن اختيار الزوجة والزوج:
ذلك أن الأسرة هي الخلية التي ينشأ فيها الأبناء لذا لزم أن تكون هذه الخلية صالحة من أساسها فقد قال رسول الله ﷺ: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك»
1 / 7
وأما فيما يختص باختيار المرأة لزوجها فقد قال رسول الله ﷺ: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» وقال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾
ج: حسن المعاملة بينهما:
فقد حث الإسلام على المعاملة الحسنة بين الزوجين وثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقال الله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وقال رسول الله ﷺ «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم» وقد كان رسول الله ﷺ خير الناس معاشرة لأزواجه وأحسن الناس رفقا بهم.
1 / 8
وكان يمازحهن ويساعدهن في أعمالهن ويسامحهن فيما يبدر منهن من أخطاء وقد قال رسول الله ﷺ «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»
د: الإنفاق على الأسرة:
1 / 9
ذلك أن المال قوام الحياة المادية، والمرأة داخلة في ولاية زوجها فهو مسؤول عنها بالنفقة، قال الله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ بل إن الإسلام قد أوجب النفقة للزوجة على الزوج حتى لو كانت مطلقة فإن النفقة والسكن واجبة عليه طول فترة العدة - وهي المدة التي تنتظرها المرأة المطلقة ولا تتزوج من غيره استبراء للرحم كما أنه يدفع لها ثمن إرضاعها لابنه منها حال طلاقها قال الله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾
هـ: الاعتناء بالأولاد رعاية وتربية:
1 / 10
لقد أكد الإسلام حق الأولاد الصغار في الرعاية والتربية وجعل ذلك أهم واجبات الأبوين فلم يكتف الإسلام بالدافع الفطري لقيام الأبوين بواجبهما بل عزز ذلك بقواعد محددة تضمن للأولاد النشوء في صورة مثلى تكفل لهم حقوقهم كاملة. فمنذ الولادة نص على استكمال الرضاعة قال الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ كما جعل له الحق في التربية قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ وقال رسول الله ﷺ: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع»
1 / 11
التكافل داخل الجماعة:
لقد أقام الإسلام تكافلا مزدوجا بين الفرد والجماعة فأوجب على كل منهما التزامات تجاه الآخر ومازج بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة بحيث يكون تحقيق المصلحة الخاصة مكملا للمصلحة العامة وتحقيق المصلحة العامة متضمنا لمصلحة الفرد فالفرد في المجتمع المسلم مسؤول تضامنيا عن حفظ النظام العام وعن التصرف الذي يمكن أن يسيء إلى المجتمع أو يعطل بعض مصالحه قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ كما أن الفرد مأمور بإجادة أدائه الاجتماعي بأن يكون وجوده فعالا ومؤثرا في المجتمع الذي يعيش فيه قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾
1 / 12
وقال رسول الله ﷺ «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقد بين الرسول ﷺ حال أفراد المجتمع في تماسكهم وتكافلهم بصورة تمثيلية رائعة حيث قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاونهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» من جانب آخر حقوقه وحرياته الخاصة فإن الجماعة أيضا مسؤولة عن حفظ حرمات الفرد وكفالة حقوقه وحرياته الخاصة.
قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾
1 / 13
وقد صور الرسول ﷺ هذه الصورة التكافلية في مثال رائع بقوله: «مثل القائم على حدود الله - أي القائم على حفظ النظام العام للمجتمع وأفراده - والواقع فيه كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»
1 / 14
وأما التكافل بين جميع المجتمعات الإنسانية فهو الذي ترسم ملامحه الآية الكريمة ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ فهي تعلن مبادئ تكافل دولي بموجبه تنتظم كافة المجتمعات الإنسانية في رباط عالمي هدفه النهائي والحقيقي إقامة مصالح العالمين ودفع المفاسد عنهم وتبادل المنافع فيما بينهم، مادية ومعنوية، علمية وثقافية واقتصادية مع الحفاظ على خصوصيات كل مجتمع وكيان دون تهديد لتلك الخصوصيات بما يهدمها أو يلغيها، وأساس ذلك إحساس الجميع بوحدة أصلهم ومنشأهم ومصيرهم.
1 / 15
وهذا التكافل لا يقف عند تحقيق مصالح الجيل الحاضر بل يتعدى ذلك إلى نظرة شاملة تضع في الاعتبار مصالح أجيال المستقبل، وهو ما من شأنه أن يسهم في حل كثير من الأزمات المعاصرة ويحاصر كثير من الأخطار التي تواجه مستقبل البشرية والتي نشأت من جراء لهاث هذا الجيل وراء مصالحه دون اعتبار للمستقبل البشري العام، وهي أخطار ومشكلات كثيرة لعل من أخطرها مشكلة البيئة والموارد الطبيعية. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ .
ونجد مراعاة هذا التكافل بين الأجيال في سياسة عمر بن الخطاب ﵁ في أرض السواد - الأرض الزراعية الخصبة في العراق - حينما فتحها المسلمون وأراد الجنود أن يقتسموها بينهم شأن بقية الغنائم فرفض هذا الرأي قائلا: (إني أريد أمرا يسع الناس أولهم وآخرهم) فقرر أن يضرب الخراج على هذه الأرض ويتركها في يد عمال يعملون فيها ويؤدون ضريبة لبيت المال (الخزينة العامة للدولة)
1 / 16
وقد استنبط هذا المبدأ من قول الله تعالى في تحديد العلاقة بين أجيال الأمة المسلمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ وحتى يحمل جيل المستقبل انطباعا جيدا عن جيل الحاضر ويحفظ له مكانته ويستغفر له ويحمل له في قلبه أرق المشاعر. وهكذا ينبغي أن يحس جيل الحاضر بهذه العلاقة المتبادلة وبآثار تصرفاته على من سيأتي بعده فلا ينتهب الموارد ولا يبدد طاقات الحياة التي يمتلكها وحده، وبذلك يضع السماد الطيب في تربة التواصل بين الأجيال فتشق الأمة طريقا بين الماضي والمستقبل موصولة الخطى على أرض صلبة وتراث عريق مقدر.
وبهذا ترسم صورة إنسانية مثلى للتكافل يحنو فيها الحاضرون على الخالفين وتهفو قلوب الخالفين إلى الماضين بالود وتتحرك ألسنتهم بالاستغفار فيتحقق بذلك التكافل الشامل لأمر الآخرة والأولى لكافة أجيال الأمة.
1 / 17
كفالة كبار السن:
1 / 18
لقد وجه الإسلام عناية خاصة لكبار السن واعتبرهم مستحقين الشيء الكبير من الرعاية مقابل التضحيات التي قدموها من أجل إسعاد الجيل الذي ربوه ورعوه، والعناية بكبار السن والمسؤولية عنه قد أنيطت في الإسلام بالأبناء أولا ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ فمسؤولية الأبناء عن بر الآباء ورعايتهم مسؤولية إلزامية ديانة وقضاء بمعنى أن أوامر الدين توجب على الأولاد وتلزمهم بها فإذا قصروا فيها ألزمهم بها القضاء ولو كان دينهما مختلفا عن الأبناء فإن ذلك لا يسقط حقهم ولا يلغي تلك المسؤولية، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ وإذا لم يكن لهم أبناء انتقلت المسؤولية عنهم إلى المجتمع ممثلا في الدولة بصورة إلزامية، كذلك يعزز ذلك ما تزخر به النصوص من ترغيب في الخير وفي الإحسان إلى الآخرين وخاصة
1 / 19
العاجزين بما فيهم كبار السن والذي ينشئ في النفس المؤمنة دافعا تلقائيا إلى بذل الخير طواعية في تلك الوجوه. والرعاية لكبار السن لا تقف عند الجانب المادي بل يدخل فيها الجانب النفسي والعاطفي الذي هم أشد حاجة إليه: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»
1 / 20