وقفة مع أبي بكر الصديق
أبو بكر الصديق ﵁: عتيقٌ في الجاهلية، صديقٌ في الإسلام، حاضرٌ في المغارم، غائب في المغانم، أحب صاحب الدعوة فقاسمه الخوف والعناء والمشقة، وشاطره الهم والمعاناة واللوعة، مناقبه خصائص تمنع الاشتراك، وخصائصه أكاليل لا تقبل غيره، ضاقت به الدنيا فدخل الغار مع صاحبه، والله يقول: ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ [الكهف:١٦] خشي على صاحبه من العقرب فسد الثقب بإصبعه، لدغ فما أنَّ، فقال له صاحبه: تأنَ، خاف على المختار في الغار من الكفار فصاح من شدة العناء: أفديك أنا، فنودي: لا تحزن إن الله معنا.
هو مثل الخليل إبراهيم، وَحد الرحمن، وحطم الأوثان، وأكرم الضيفان ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:١٣]
أبو بكر هو الأول في الإسلام وفي الهجرة والجهاد، إلى الله سبق، وبشرعه نطق، وفي القول صدق، فلا تركبن في سريته طبقًا عن طبق، زوج ابنته الإمام، واشترى المؤذن، وبنى المسجد، فنال جائزة: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ [الليل:٢١]
مع الصديق إداوة يسقي بها الصاحب، وسيفٌ ينافح به عنه، ولسانٌ يدعو إليه، وقلبٌ يحبه، وعينٌ تبكي لحديثه، وجفنةٌ تطعم ضيوفه.
أبو بكر قيل له: نُبئ صاحبك، قال: صدق، قالوا: ونزل عليه جبريل، قال: صدق، قالوا: وأخبرنا أنه أسري به، قال: صدق، قالوا: وذكر أنه عرج به، قال: صدق، فقيل له: أنت الصديق حيًا وميتًا، لقبٌ يبقى لك مجردًا ومضافًا، نكرةً ومعرفة، مفردًا وجمعًا.
آمنت بالذي جعل الصديق في الإيمان آية للسائرين، إن حانت الصلاة؛ فهو في الصف الأول من القانتين، وإن تلا غلبه البكاء، وابيضت عيناه من الحزن خشية لرب العالمين، وإذا ادلهم الخطب عرض روحه للمنايا، وقدم رأسه لسيوف المقاتلين، لا يكفه أن يدعى للجنة من باب بل من الأبواب الثمانية، ولم يسعه أن يعتنق الإسلام في مكة سرًا بل علانية، دخل مع الصاحب في الغار، وخرج معه للهجرة، وبات معه في بدر، ولزمه في حنين، وسافر معه إلى تبوك، وحج معه، وناب عنه في الإمامة، وقام مكانه في الخلافة.
لما مات الصاحب سال دمعه سريعًا ساخنًا صادقًا، فلما ارتد بعضهم عن الإسلام جف دمعه، وصلب عوده، واشتد ساعده، ولعلع سيفه، وزمجر صوته، فرد من شرد، وأقام من قعد، وأدخل بالسيف في قلوب الناكثين ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:١] فكان لسان الحال في الأزمات يحييه، اثبت أحد.
قال المارقون: لا ندفع مالًا، فأقسم: [[والله لو منعوني عقالًا.
]] فسل سيف الحق.
ارتد مسيلمة الكذاب، فقال الصديق: يا ذباب! يأتيك الجواب فألبس خالدًا العمامة، قال: هيا إلى اليمامة، فاهتز سيف الله المسلول، فصبح المرتدين وهم في ذهول، فحطَّم الجماجم، وأذل الباطل وهو راغم، أبو بكر ما أشده! هو رجل الشدة، وبطل يوم الردة، الأسود تَسود، والمثالب للثعالب.
أبو بكر ثلاث ليالٍ، وثلاثة أيام، وثلاث ساعات، ليلة الغار، وليلة بدر الأبرار، وليلة الدار، أبو بكر يوم أعلن إسلامه، ويوم ارتحل مع صاحبه مرةً خلفه، ومرةً أمامه، ويوم جهز جيش أسامة، وأبو بكر ساعة سمع سورة اقرأ، وساعة صدَّق المعصوم في الإسراء، وساعة مات الحبيب وأظلمت الغبراء.
أبو بكر أعلن الحرية؛ لأنه أول من استقبل عبدًا، وأول من ودع عبدًا، استقبل بلالًا أيام البلاء، يوم كانت قريشًا ثائرةً على السود، هائمة في السيادة، ضالعةً في الاستعباد، وودع أسامة الأسود يركب على الفرس بسواده، والصديق يطأ الثرى ببياضه، ليقول للناس: لا ألوان، لا أنساب، لا ألقاب، عندنا رسالة ويقين، وطهر ضمائر، وسمو همم، هو مع خليله وإمامه وحبيبه وأسوته، في الصلاة خلفه، في الحرب أمامه، في الطلب لديه، في المهمات عنده.
أبو بكر قلبٌ نبيل، وجسمٌ نحيل، وشاب الإرادة، وشيخ التجارب، أحيا قلبه بالإيمان فلم يمت أبدا، وأمات نفسه عن الشهوات فلم تعش أبدًا، هاج الناس يوم مات الرسول ﷺ فسكن أبو بكر، تلعثموا فتكلم، أراد أن يخبرهم بالمصاب فأتى بالعجب العجاب: [[من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت]].
أبو بكر نحيفٌ أسيفٌ شريف، نحيف لم يثخن من موائد اللاهين وبعض الرعية في أسراب الجائعين، وأسيفٌ بكى من التنزيل، ودمعت عيناه من خوف الجليل، ووجل ليوم الرحيل، وشريف سمت روحه عن الشهوات، وعظم قلبه أن تناله الشبهات، ونظفت يده أن هاء وهات، عنده صحة فطرة، سقاها معين التوحيد، ونضحها نسيم الهجرة، وأنضجتها شمس الجهاد.
عقيدته توقد من شجرةٍ مباركة لا شرقية ولا غربية، بل ربانية سُنية سلفية، نورٌ على نور، شاب رأسه من تلك الأيام، يوم رأى إمامه وقدوته يؤذى في الطواف، ويوم شاهد السيوف تلف الغار، ويوم أبصر الحبيب يودع الحياة، صفقته رابحة، وكِفته راجحة، وعطاياه غاديةً رائحة، أنطق بحجته ألسنة النبلاء، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأسكت بدولته أفواه البغاة يوم قالت: لا إله، أرسل لواءه الأبيض على الأسود العنسي ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء:١٢]
وأرسل طلحة على طليحة فصغر الاسم، ومحا الرسم، ولا يغلب اسم الله اسم، جمع له المرتدون الخيول المرسلات؛ فسلط عليهم السيوف النازعات، منعوا زكاة المال؛ فأخذ منهم زكاة الرجال، قطعوا الحبال فارين؛ فجرهم في العمائم مقيدين.
مات المعلم يوم الإثنين، ومات التلميذ يوم الإثنين؛ لأنه ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:٤٠] وتنتهي بهما في دار المقام، ويذهب الحزن كله، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر:٣٤].
4 / 3