[سياسة النفس]
صفحہ 331
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا أبو محمد ، عبد الله بن أحمد ، قال : أخبرني أبي رحمه الله أحمد ، (1) بن محمد ، بن الحسين ، بن سلام قال : أنفذ إلينا أبو محمد ، القاسم بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين ، أول ما أنفذ إلينا من كتبه ، كتابا يقال له : (سياسة النفس).
قال أبي رحمه الله : فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه ، ونرحل إلى غيره من أهل البيت عليهم السلام ، فأسفنا على ما فاتنا منه ، وقلنا : ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا ، إلا أن نكون جواب كتابه. فرحلنا إليه ، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة ، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات ، ثم سمعنا منه هذا الكتاب ، وأوله :
بسم الله الرحمن الرحيم. بالله أستعين
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما. ونسأل الله ولي نعمة الابتداء ، ومسهل سبيل قصد الاهتداء ، أن يمن علينا وعليكم بشكر نعمه في ابتدائه ، ويحسن إلينا وإليكم بعونه على سلوك سبيل أوليائه ، التي أرجو أن تكون أنفسكم (2) لها وفيها ، ولما أنتم عليه لله من التمسك بها والقصد إليها من الأنفس التي أذن الله بعمارتها ، ورمى (3) إليها بأسباب حياتها ، فقد عقد الله لكم لذلك (4) لدينا عقد الخلة والاخاء ، ووكد بذلك لكم علينا أخوة الخاصة والأولياء ، فأيقنوا أنه لم يوصل سبب من الأسباب بين المتواصلين ، ولم تعقد خلة من الخلل بين المتخالين ، من
صفحہ 333
الأولين من خلق الله لا (1) ولا من الآخرين ، بغير ما يرضي الله سبحانه من التقوى ، ويستحقه جل ثناؤه من الطاعة له والرضى ، إلا كانت وصلة حسرة وانقطاع ، وندم غدا واسترجاع ، يدعو أهلها فيها بالويل والعويل ، ويصيرون بها في الآخرة إلى خزي طويل ، ذلك قوله جل ثناؤه : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) (67) [الزخرف : 67]. وقوله تعالى عن القائل غدا : ( يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ) (29) [الفرقان : 28 29].
ونحن نرجو وليكم (2) الله أن يكون وصلة ما بيننا ، وما عقد الله فله الحمد عليه خلتنا ، سببا عقده الله بالإيمان ، وأسسه منه على رضوان ، فمن أحق بالتعظيم منا لما كانت الأبرار تعظمه ، ومن خير ما قدمناه فيه ما كانت الأتقياء تقدمه ، من كل ما كان لهم على بغيتهم من النجاة دليلا ، وإلى ما يلتمسون من فوز حياة الخلد عند الله سبيلا ، من التذكير من بقاء (3) الآخرة وفناء الدنيا بما ذكر ، والأمر في عاجل هذه الدنيا من التقوى له بما به أمر.
فافهموا ذلك فهمنا الله وإياكم سبيل الخير ، ونفعنا ونفعكم فيها بمنافع التذكير ، فإنه يقول سبحانه : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (55) [الذاريات : 55]. والدنيا وإن كان أمرها قصيرا ، وبقاء أهلها فيها قليلا يسيرا ، فاعلموا رحمكم الله أنها وإن كانت كذلك في البلوى ، فإنها متجر لأرباح فوائد التقوى ، ومكسب غنم لمن كسبها فيها ، ومحل مخصب لمن تزود إليها منها ، ومعبر لمن تبلغ بها عند ظفره بكسبها ، إلى دار مقام ، ومحل دوام ، ليس عنها لمن نزلها انتقال ، ولا منها بعد طولها زوال (4)، والدنيا فإنما خلقها الله سبحانه لعبادته ، وأمر خلقه فيها بطاعته ، ونعاها إليهم
صفحہ 334
قبل فنائها ، وأخبرهم جل ثناؤه بقصر مدتها وبقائها ، فقلل (1) بأحق الحقائق في أعينهم ما يستكثرونه من كثيرها ، وقصر في كتابه الناطق عندهم ما يستطيلونه من تعميرها ، فقال : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) (78) [النساء : 77 78]. وقال سبحانه : ( إنما أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) (46) [النازعات : 45 46]. وقال تبارك وتعالى : ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) (45) [يونس : 45]. وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ) (35) [الأحقاف : 35].
[الدنيا الغرور]
فالدنيا أحق منزل بأن لا تمل مكاسب غنمه ، ولا يغفل في حث ولا جد ولا اجتهاد عن تغنمه ، (2) ولا يذم سعي من عمل له ، واغتنم فيه مدته وأجله ، بل المستحق للذم فيها من أوطنها ، على يقين العلم بالنقلة منها ، (3) وسعى للنيل فيها ، مع يقينه
صفحہ 335
بفنائها ، فأصبح مشغولا بالفراغ مما شغله ، فارغا من الشغل الذي فرغ له ، مصيخا (1) إلى الغرة ، موطنا لدار النقلة ، لا جاهلا فيعذر ، ولا ناسيا فيذكر ، فكأن الموصوف المفتون بما يسمع ويرى ، ليس بموقن بزوال الدنيا ، بل كأنه لم يوقن بمواعيد ربه غدا إذ تأخر (2) ذلك عنه ، ولم يصدق بما حذر (3) إذ قصر به دنوه منه ، بل كأنه نسي أن الدنيا جعلت دار بلوى ، ولم تجعل لأحد من ساكنيها دار مثوى ، وجعلت إلى غيرها معبرا ، ولم تجعل لساكنيها مستقرا ، وأنها لأهلها ممر سبيل ، ومنزل نقلة وترحيل ، وأن كل من فيها إلى دار قراره غير لبيث ، (4) ومن الآخرة في السير حثيث ، فلو كان يصير من فيها بعد موته إلى غير معاد ولا مصير ، لما وسعه إن نظر أو عقل ففكر أن يركن إلى ما يزول ، وينصب لما يفنى فلا يدوم ، (5) وكيف وهو مبعوث ومحاسب ، وموقوف غدا للحساب فمعاتب ، فيما أفنى من عمره ، بل في كل أمره ، من صغير (6) محصوله ، وجميع فعله وقوله ، يحضر له كله يوم البعث في الحساب ، ويجد ما كان فيه من خطأ أو صواب.
فيا ويله أما سمع قول الله تبارك وتعالى فيه ، وما حكم الله به (7) من عدل حكمه عليه ، إذ يقول سبحانه : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) (49) [الكهف : 49].
فبادروا رحمكم الله لعظيم المغنم ، وأجدوا في الهرب من أسف الندم ، واتقوا صفقة الخسار ، فإنها بين الجنة والنار ، ولا تبغوا من الراحة ما يفضي بأهله إلى النصب الدائم ، ولا من النيل إلى ما يؤدي إلى حرمان الغنائم ، وأكثروا ذكر السقم والوفاة ، وما رأيتم
صفحہ 336
فيهما وبهما من البغتات والفجآت ، فكم قد رأيتم بهما من مبتغت وصريع ، وكم سمعتم عنهما من خبر هائل فضيع ، ولا تؤثروا ما لم تخلقوا له على ماله خلقتم ، ولا تكثروا تشاغلكم بطلب الرزق فقد رزقتم ، قديما في ظلم الأرحام ، وبعد (1) إلى حين أوان الفطام ، ثم مذ كنتم في الناس شيئا مذكورا ، فكفى بذلكم على كفاية الله دليلا ونورا.
فاعرفوا كفايته لكم بما عرفتم ، وقوموا من ذلك كله بما كلفتم ، واضربوا عن طلب الدنيا عنكم بفادح الأثقال ، وتكلف ما أنتم فيه لطلبها من الأشغال.
أفلستم بموقنين ، ببت يقين ، لستم بمرتابين ، أن الحظ من الدنيا إلى نفاد ، وأنكم من الموت على ميعاد ، فما بالكم لا تنظرون في عاقبة الدنيا ، ولا تتأهبون إن كنتم موقنين (2) لدار المثوى ، أترون ذلك زلفا (3) عند ربكم ، وليست لكم أم بوسيلة وليست معكم ، (4) أم بحسن عمل ولم تقدموه ، أم بعظيم الرجاء ولم تحققوه.
فيا أيها الراكن إلى الدنيا وزخرفها ، والآمن (5) لنوائب تصرفها ، والمغتر في معاشها ومكالبتها في طلبها ، والمؤثر لها على ربها ، والمشغول بما كفى منها ، والجاهل بخبر الله عنها ، هبك لم توقن بما دعا الله إليه من ثوابه! ولم تخف سطواته فيما حذرك من عقابه! ألم تك ذا عقل فتفهم عن الدنيا خبرها؟! وتسمع منها موعظتها؟! فلعمرها ما قصرت في موعظة ، ولا تركت لذي عقل فيها من علة ، لقد أخبرتك عن القرون ، بما أحلت به من المنون ، فخربت الديار ، وعفت الآثار ، هبك أصم في هذا كله عن سماع موعظتها ، وما كشفت لك بذلك عنه من سوآتها ، ألم ترك (6) عيانا فيمن معك من نوازل مناياها؟! وما أوصلت إليك في فقد الأحبة من رزاياها؟! أو لم تكن في طول ما
صفحہ 337
جربت من أسقامها ؟ وما حل بك خاصة في نفسك من آلامها؟ وما علمت من استدعاء القليل من موجودها ، للكثير الجم من مفقودها ، حتى في كل أمرها ، بل في خطرات ذكرها ، فهي فقر لا غناء معه ، وشره (1) لا قناعة له ، وحرص لا توكل فيه ، وطلب لا انقضاء للميعاد منه ، وغدر وختر (2) وكذب وخيانة ، ليس فيها صدق ولا وفاء ولا أمانة.
أفما كان في ذلك ما يدعوك إلى الزهد فيها ، والتنزه بعده من الميل إليها ، وإدخال الراحة على نفسك من الشغل بها ، وما حملك الشره من أحمال ثقلها؟! فكيف وأنت زعمت أنك موقن بمواعيد ربك ، وذلك فما لا يتم إلا به إيمانك ، (3) فكيف وقد فهمت من الدنيا خبرها ، وعلمت يقينا موعظتها ، وأيقنت أنه لا يدوم لك فيها خلود محبة ، ولا يتم لك فيها سرور بمعجبة ، ولا يتبعك منها (4) تراث تركته ، والموت فسبيل كأن قد سلكته ، فكل هذا منها فأنت منها (5) في منهج وسبيل ، مع أن الذي هو فيها وأدل عليها من كل دليل ، خبر الله سبحانه عنها ، وما وصفه من صدق الخبر منها.
فاسمعوا لذلك من الله فيها ، وتفهموا عن الله دلالته سبحانه عليها ، بفهم من قلوبكم مضي (6)، وعقل من ألبابكم حيي ، فإنه يقول سبحانه : ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) (32) [الأنعام : 32]. ويقول سبحانه: ( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) (5) [فاطر : 5].
ثم قال سبحانه : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا
صفحہ 338
النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) (16) [هود : 15 16].
ثم قال سبحانه : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) (19) [الإسراء : 18 19].
وقال سبحانه : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤن بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (25) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) (26) [الرعد : 19 26]. فحياة الدنيا وعمرانها عند من يعقل عن الله خراب وبور ، وكل ما في الدنيا من غير طاعة الله فلا يغتر به إلا هالك مغرور.
وفي فروع هذا كله وأصوله ، وما نزل الله فيه من بيانه وقوله ، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عيانا ، وسمعتم نداه إعلانا ، وكلا (1) لو رأيتم لعمركم إذا لأبصرتم ، ولو أبصرتم إذا لاغتنمتم ، ولكنكم نظرتم بأعين عمية ، وسمعتم القول فيه بآذان دوية (2)، ودبرتم الأمر فيه بقلوب سقيمة ، غير برية من أدواء الأهواء ولا سليمة ، فآثرتم ذميم ما
صفحہ 339
حضركم ، على كريم ما غاب عنكم ، وما عجل إليكم ولكم ، على ما قصر علمه دونكم ، كما قال الله تبارك وتعالى : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (7) [الروم : 7]. وكذلك فلم يزل العتاة (1) الجاهلون ، أما لو نظرتم إليه بأعيان جلية ، وسمعتم القول فيه بآذان سوية ، ودبرتم الأمر فيه بقلوب حيية ، لعلمتم أنكم من الدنيا في إدبار حثيث ، ومن الآخرة في إقبال غير مكيث ، (2) فكأن ليلكم ونهاركم في مرورهما بكم ، وكرورهما عليكم ، قد وقفا بكم على آجالكم ، وأفرادكم عن غرور آمالكم ، وكشفا عنكم أغطية أبصاركم ، فحسر (3) رأيكم إن لم يرحمكم ربكم.
[الانسان المغرور]
فيا ويل المغرور من نفسه ، المخطئ لسبيل حظه ، من أي يوميه يشغل؟! بل من أي حاليه يغفل؟! أيوم رجوعه إن عمر إلى أرذل عمره؟! وحاله حين يصير عيال عياله وأسير منزله وداره ، أم عن يوم وروده دارا لم يتخذ بها منزلا؟! ولم يقدم إليها من صالح عملا ، أم لأي يوميه يفرغ أليوم حبرة ، (4) يتبعها عبرة؟! وفرحة ، يعقبها ترحة ، (5) وزخرف يعود حطاما ، وفخر يحول (6) بوارا ، أم ليوم شغل لما فرغ منه؟! وتفرغ لما أمر بالاعراض عنه ، واحتقار لما نعي إليه فراقه ، وحرص على لزوم ما هو مفارقه ، كأنه لا يستحيي من حمده لمذموم ، وركونه (7) من الدنيا إلى ما لا يدوم ، واستبطائه لغير دار خلوده ، وتكذيبه بفعله لما يزعم من محموده.
صفحہ 340
فيا عجبا كل العجب كيف ركن إلى ما ذم (1) مختبره؟! وكيف استفرغه الفرح بجمع ما هو شاخص عنه؟! وكيف تعقبه الأسف على فوات ما لا يدوم له؟! وكيف يثق بما ينفد على ما يبقى؟! وكيف يغفل بما هو فيه من النصب لمؤاتاة (2) دنياه ما يلقى؟! مع علمه ويقينه بأنه لا يبلغ منها غاية إلا دعته إلى غايات ، فمتى إن لم يرفض (3) الدنيا يستريح من حاجة فيها تدعو إلى حاجات؟! ومتى يقضي شغلا إذا هو فرغ منه فقضاه؟! عرض له أكبر منه فطلبه وابتغاه.
ففكروا رحمكم الله وانظروا ، تعلموا إن شاء الله وتبصروا ، أنه ليس لكم من سراء دنياكم ، وإن طالت صحبتها إياكم ، (4) إلا كطرف العيون ، فهي للجاهل المغبون ، من ذي دناءة أو لوم ، أو فاجر عمي ملعون ، قد صارت الدنيا كلها له ، فليس يأخذ أحد منها إلا فضله ، فقدرته وإن لؤم (5) ودنا ، وكان فاجرا معلنا ، على كثير من كرائم النساء ، ونفيس المراكب والكساء قدرة الأبرار ، وأبناء الأحرار.
والدنيا أعانكم الله فيما خلا ، وإذ (6) كانت تضرب لفساد أهلها مثلا ، وإنما كان يمسخ أهلها وأنسها ، فمسخت الدنيا اليوم نفسها ، فلم نترك والله المستعان من ذكرنا لها زينة ولا بهجة ، وعادت الدنيا كلها غرقا ولجة ، فأمورها اليوم كلها عجائب ، وكل أهلها في مكالبتها فمغتر دائب.
وقد بلغني أن عيسى بن مريم صلى الله عليه ، كان يقول لمن يحضره ولحوارييه : (بحق أقول لكم أنه لا يصلح حب ربين ، وما جعل الله لرجل في جوفه من قلبين ، لا
والمواتاة : المطاوعة.
صفحہ 341
يصلح حب الله وحب الدنيا في قلب ، كما لا تصلح العبادة إلا لرب)، (1) وكان يقول صلى الله عليه (بحق أقول لكم : إن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وكذلك فحب الله ولا قوة إلا بالله فعاصم لأهله من كل سيئة) (2).
أفيرجو من آثر الدنيا؟! على الله أن يكون مع ذلك لله وليا ، هيهات هيهات أطال من آثر الدنيا ، عنان عمله الغي والهوى ، فجمحت به نوازغ الغي المردي ، وعتت به مطايا الهوى المضل المغوي ، حتى أحلته دار الندامة ولات حين مندم ، ثم أسلمته من الحيرة إلى شر مسلم ، فما ينكشف عنه قناع غرة ، ولا يتيقظ من نوم سكرة ، رانت على قلبه بوادر أعمال السيئة ، وفتن دهره المضلة المعمية ، فقاده أهل الدنيا ، وأعنق (3) به قائد الهوى ، ومنته نفسه بالاغترار طول البقاء ، وأسرعت الغفلة في أيامه بالفناء ، وكذبته نفسه في أي (4). حين وأوان ، وفي أي حال رحمكم الله ومكان ، حين لا رجعة ينالها ، ولا إقالة يقالها ، وعند معاينته الأهوال ، وما لم يخطر له ببال ، من هتك ستور السوءات ، وهو في حال أحوج الحاجات ، إلى ما كان تركه فقرا وبلاء ، وغيره هو الخفض والغناء : ( يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (18) [غافر: 18]. ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) (25) [النور : 24 25]. يوم خافته رجال فمدحهم الله وزكاهم ، وأحسن على مخافتهم له ثوابهم وجزاهم ، فقال سبحانه فيهم ، وفي حسن ثنائه بمخافتهم له عليهم : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب
صفحہ 342
والأبصار (37) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ) (38) [النور : 37 38]. ويقول سبحانه : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ) (158) [الأنعام : 158]. ويقول سبحانه : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89) وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين ) (91) [الشعراء : 88 91]. ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) (6) [المطففين : 6]. ( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) (106) [الأنبياء : 106].
فرحم الله امرأ ، أحسن لنفسه نظرا ، فرفع عن الوناء (1) ذيله ، واغتنم من الله سبحانه تمهيله ، فحسر (2) عن ذراع ، وشمر بإجماع (3)، وانتبه عن وسن غفلة الغافلين وإن لم يشعروا ، وتيقظ من نوم جهل الجاهلين وإن لم (4) يسهروا ، فعلم أن من رحمة الله بنا ، وحسن معونته لنا على أنفسنا ، أن جعلنا نسقم ونتغير ونبتلى ، بمثل ما يرى من تغير أحوال الدنيا ، في فناء ليلها ونهارها ، وما يغتذى به في برها وبحارها ، من كل مأكول ، أو لباس نسج معمول ، أو غير ذلك من ألوان فتونها ، وما سخر الله من ضروب ماء عيونها ، فنبهنا بذلك كله ، وبما أرانا من تغيره وتبدله ، من قصر مدة آجالنا ، وعلى أنه لا بقاء ولا دوام لنا ، ولو جعلنا ندوم أبدا أو نبقى ، لما جعل بين الدنيا والآخرة فرقا ، ولكان من عتا الخليق (5) ببقائه بادعاء أخبث الدعوى ، ولما امتنع من العاتين ممتنع من سهو ولا هوى.
صفحہ 343
[النفس]
ولكنه سبحانه عرفنا أنفسنا وفناها ، وألهم كل نفس منها فجورها وتقواها ، فجعل فجورها غيا وتقواها هدى ، وجعلنا تبارك وتعالى نموت ونفنى ، لنستدل بالموت وتصاريف طبائع الخلق ، على حكمة تدبيره لنا في الفطرة والصنع ، وليدعونا خوف الفناء ، إلى طلب حياة البقاء ، وجعلنا (1) تبارك وتعالى من جزءين اثنين نفس وجسد ثم ألف بينهما بلطيف تدبيره ، وأحكم تركيبهما بأحسن تصويره ، فجعلهما بعد تباينهما شخصا واحدا مكملا ، وجعل لبقائه وأيام حياته مدة وأجلا ، ثم أمره بعد كموله فيه ، برشده وحضه عليه.
فإن نفسه سمعت له وأطاعت ، وأجابت إلى ما دعا إليه فسارعت ، رشد عند الله واهتدى ، وفاز من الله بثوابه غدا ، وإن نفسه عصته والتوت عليه وأبت ، ما دعي إليه من الرشد فغوت ، ولم تعتصم بالله ، ولم تذكر (2) رحمة من الله ، ضل عند الله فعطب ، (3) وهلك في القيامة وعذب ، فنفس المرء إذا لم ترشد (4) له فشر صاحب ، ودعاة إلى كل هلكة ومعايب ، لأنها لو لا عصمة الله لها في خطاياها أبدا كرارة ، ولصاحبها إلى ما حرم الله أمارة ، كما قال يوسف صلى الله عليه : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) (53) [يوسف : 53]. وكما قال شعيب صلى الله عليه في توفيق الله ومعونته له على عبادته ، وحسن نظره وعصمته ، ولما كان عليه من رعاية حق الله وأمره من إرادته (5): ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) (88) [هود : 88].
فمن خالف نفسه في خطاياها ، ومال مع الحق عليها ، لم يضرره لها هوى ولا أمر ،
صفحہ 344
ولم (1) يدخل عليه منها خطأ ولا ضرر ، ومن قبل عن نفسه ما تأمره به من سوء ، كانت نفسه له أعدى من كل عدو.
وقد بلغني أن بعض الصالحين كان يقول : محاربة المرء لنفسه بمخالفته ، (2) يثبت فيها طلب ثواب الله وطاعته.
[الصبر]
واعلم أنه ليس يسلك سبيل مرضات الله إلا من أيده الله بروح الهدى ، وأن ليس يوصل إلى سبيل مرضاته جل ثناؤه بالمنى ، دون أن يحمل النفس عليها ، ويصبر لأمر الله وحكمه فيها ، كما قال الله سبحانه : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) (123) [النساء : 123]. وقال سبحانه : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (214) [البقرة : 214]. ويقول سبحانه : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) (142) [آل عمران : 142]. وفي مثل ذلك من ابتلاء القائلين ، ما يقول رب العالمين : ( الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (3) [العنكبوت : 1 3].
[التقوى]
فتأهبوا رحمكم للبلوى ، وانتهوا إلى ما أمرتم به من التقوى ، ونقوا قلوبكم من دنس الدنيا وإيثارها على الله كيما تنقى ، وطيبوها بالبر والتقوى وكونوا مع من بر
صفحہ 345
واتقى ، فمتى ما تكونوا مع أولئك ، تنجوا بإذن الله من المهالك ، ويكن (1) الله جل ثناؤه معكم كما قال لقوم يسمعون : ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) (128) [النحل : 128].
[التفكير]
واعلموا وليكم الله أن من أبواب التقوى ومفاتحها ، وأقوى ما تقوى به من رشد بإذن الله على قبول نصائحها ، حسن الفكر في الدنيا وفنائها ، وتقلب سرائها وضرائها ، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة ، ومن دونهم من الخلق جميعا عامة ، فإنكم رحمكم الله إن تفكرتم فتروا ، بعين الفكر وتبصروا تعلموا أنهم جميعا منها وإن اختلفت أحوالهم في السراء والضراء ، في مضامير بأقدار أحوالهم فيها من السعادة والشقاء.
وقد ينبغي لمن سلك سبيل مرضات الله وآثرها ، وعظمها بما عظمها الله به من رضوانه فوقرها ، أن يتحفظ من نفسه فيها ، ويجمع كل أشغاله ولا قوة إلا بالله إليها ، فإنه لو تفرغ لخدمة بعض ملوك الدنيا ، لحق عليه الاجتهاد في بلوغ الغاية القصوى ، فكيف بمالك الملوك إذا برز لعبادته ، ونابذ في الله عدوه من الجن والإنس بمحاربته ، فليتحرز من سلك سبيل ولاية الله ومرضاته ، ومن يريد القيام بما أوجب الله عليه من فرض حقه وطاعته من السقط والخلل ، وليستيقظ من الغفلة والزلل ، وليتيقظ وليعرف قدر ما يعرض لأهل ذلك من البلوى والفتنة ، وما ينصب له (2) وفيه من المباينة ، وعلم بلواها وفتنها فيجوز (3) في مواطن العزم والشدة ، ولا يصبر عند نزول البلوى المؤكدة ، فإن ذلك ، إذا كان منه كذلك ، فليس له به حول ، ولا لمن صار إليه إلى الله به وصول ، وإنما وصفت لكم هذا فيها ، (4) لكيلا يقدم مقدم عليها ، إلا بعد
صفحہ 346
علمه بهذا منها ، وفهمه لهذا (1) من الخبر عنها ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم نصف الكتاب
واعلموا أن القلوب كالآنية المصدوعة ، فيما (2) تنازع إليه من غرائزها المطبوعة ، فإن لم يرهم (3) مصدوعها ، لم يصح مطبوعها ، على بنية اعتداله ، فيما فطرها الله عليه من كماله ، فزموها (4) بالعلم بكتاب الله وتنزيله ، والوقوف على محكم تأويله ، ففي ذلك لها تقويم وتعديل ، وهداية ونور ودليل ، على منهاج خالص الطريق المساير (5) لها في حب الله وطاعته ، وما أوجب الله على العباد من أثرته وعبادته ، وبكتاب الله يتجلى عن القلوب ظلم الحيرة ، وبلطيف النظر فيه يدرك حقائق العلم أهل البصيرة ، وبسبل (6) الله فيه المطرقة ، تكون هدايات المتقين في الثقة ، من نيل (7) الغايات القصوى ، وبلوغ الدرجات (8) العلى.
وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص ، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص ، أن الإلطاف في النظر ، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر ، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس ، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس ، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم ، وسدوا ثلمة عيبه في (9) سرائركم.
واعلموا أن البحر لا يجاز يقينا بتا إلا بمعبر ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح
صفحہ 347
في الحرب فكيف بالعي المغتر ، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى ، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى ، إلا وقد تحصن بالعلم والبصر والنظر ، (1) الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر ، فلا تدعوا رحمكم الله حسن النظر في الأمور ، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.
واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه ، وأضوأ ضياء نوره ومصابيحه ، إخلاص العمل لله ، وصدق التوكل على الله ، وسبب الطريق إليها ، وعون من أراد مما (2) فيها ، (حسن الفكر في الدنيا وفنائها ، وتقلب سرائها وضرائها ، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة ، ومن دونهم من الخلق جميعا عامة ، فإنكم إن تفكرتم فتروا ، بعين الفكر وتبصروا ، أنهم جميعا منها وإن اختلفت حالهم [في السراء والضراء ، في مضامير بأقدار أحوالهم] فيها من السعادة والشقاء) ، (3) فقد غشيهم من همومها كأمثال الجبال ، ورمت بهم (4) من غمومها في مثل لجج البحار ، فالملك في شغل من ملكه ، والمملوك في سطوة مالكه ، والمكثر من إكثاره ، والمقل من إقلاله.
[أحوال الخلق في الدنيا]
ولن يحاط بوصف أحزانها ، وأوجاع غموم سكانها ، ويحق (5) بذلك منزل سريع زواله ، قليل ما تمتع بالراحة فيه نزاله ، بأساؤه أبدا فيه متداركة ، ونجاة أهله فيه مهلكة ، وغمومهم فيه متراكبة ، وهمومهم به مكتسبة ، فلا الغني يخلو من غم الجمع
صفحہ 348
وكده ، ولا الفقير ينجو من الكد فيه بجهده ، يسعى الغني فيه خوفا من العدم ، ويكد الفقير طلبا للمغنم ، فجدة الغني فيه فقر ، ومغنم الفقير منه خسر ، يخاطرون لذلك في أهوال البحور ، ويركبون لطلبه كل باب من أبواب الفجور ، فأقرب ما يكونون (1) من السرور به ، أقرب ما يكونون (2) من الغم بسلبه.
فكم في الدنيا من غريق في لجج البحار؟! وكم فيها ولها من مبتلى بقتل أو أسار؟! وكم لطالبها ، وإفراطه في حبها ، من ميت غريب ناء عن الولد والأوطان ، بين غتم (3) لا يعرفونه ، وطماطم (4) من السودان ينكرونه ، لم يبكه هنالك ولده ولا قرباه ، ولم تأسف عليه كما أسف عليها دنياه ، بل تخلوا جميعا منه ، وأعرضوا سريعا عنه ، فورثوه غير حامدين له فيما جمع ، وأسلموه إذ مات لما عمل وصنع ، ولعل قائلا منهم أن يقول : ما كان أفحش حرصه وإيعاثه ، (5) أو قائلا منهم يقول : ما أقل أو ما أكثر تراثه ، تلعبا بذكره ، وتفكها في أمره.
فأعرضوا هذا رحمكم الله على قلوبكم لأن ينجلي لكم إن شاء الله ما فيها عن الدنيا من العمى ، وانظروا إلى من زالت عنه القدرة من أبناء الملوك والعظماء ، كيف صاروا إلى الضعة بعد الرفعة ، والضيق بعد مضطربهم من السعة ، بل انظروا بعد هذا كله ، إلى من كان هذا أكثر شغله ، ألم تروا غلطهم في مسالكهم ، ومرتطمهم في مهالكهم ، فاعتبروا بهم قبل أن تغرقوا في بحرهم ، وتقعوا في مهالك أمرهم ، وآثروا سبيل أحباء الله على كل سبيل ، واستدلوا بما كان لهم على سبيلهم من دليل ، فإن سبيلهم فيه ، وعونهم كان عليه ، ما خالط فكرهم ، وأحيوا به في الفكر ذكرهم ، من نعيم الآخرة الدائم المقيم ، وما أعد الله لمن حاده من العذاب الأليم.
ففكروا رحمكم الله كما فكروا ، تبصروا إن شاء الله من فضل سبيلهم ما
صفحہ 349
أبصروا ، وفوضوا أموركم في ذلك كلها إلى الله ، واعتصموا في ذلك كله بالله ، فلا تدعوا فيه يقظة الجد والاجتهاد ، بعد التوكل على الله ربكم فيه والاعتماد ، وابذلوا لله فيه كل جهد ، وأخلصوا له منكم في كل قصد ، فإنكم إن تفعلوا ذلك له ، (1) وتقصدوا فيه ما يجب فعله تولاكم الله فيه فعصمكم ، وكفاكم به مهمكم ، ولا تحدثوا أنفسكم بعد أن يمن الله عليكم بهذه النعمة ، وبعد الدخول منكم في هذه السبيل المكرمة ، بالخروج ما بقيتم منها ، ولا بالإعراض أبدا ما حييتم عنها ، ولكن وطنوا نفوسكم على احتمال صعاب الأمور فيها ، ولا تخافوا ولا قوة إلا بالله تخويف من خوفكم عليها.
واعلموا أنه لن يكون أحد في فعله خلصانيا (2)، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله وليا ، إلا بعزمه على طاعة الله وإقدامه ، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه ، فاعزموا على التقوى عزم من يوقن بفضلها ، تكونوا بإذن الله من أوليائها وأهلها ، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله ، تكونوا من السابقين بالتقوى إلى الله ، فقد نبهكم الله لها وأيقظكم ، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم.
[الموت]
والموت رحمكم الله فقد أبان النداء ، وداعيه فغير مفتر في الدعاء ، يختطف ملحا دائبا النفوس ، ويميت الكبير والصغير المنفوس ، لا يغفل غافلا وإن غفل ، ولا يؤخر مؤملا لما أمل ، بل يكذب الآمال ، ويقطع الآجال ، ويفرق بين الأجساد والأرواح ، وفي (3) أي مساء يأتي أو صباح ، بل في كل حالة وساعة ، فكم من بلية أو منية فجاعة ، تمنع من روح الأنفاس ، وتقطع إلف الإناس ، (4) قد رأيناها عيانا ، وعلمناها إيقانا.
صفحہ 350
وإذا وطنتم أنفسكم إن شاء الله على سلوك هذه السبيل ، وهداكم الله إليها بما جعل الله في فضلها لأهلها من الدليل ، فارضوا بالله فيها بدلا من الدنيا ، واقصدوا قصد وجوه البر والتقوى ، واعملوا عمل من يوقن بحصاد مزدرعه وزكائه ، (1) وثقوا من الله فيما عملتم من ذلك بحسن جزائه ، إذ تحملتم له ولأمره طلب الرضى ، وفارقتم لوجهه أهل الدنيا ، وحرمتم على أنفسكم عارض شهواتها عند اشتهائه ، وآثرتم ما أعد الله من الخيرات الباقيات لأوليائه.
واعلموا أنكم إذا أمتم عارض شهواتكم لله ، فقد طبتم وزكيتم وأشبهتم المصطفين من عباد الله ، وفي غد ما يقول لكم ملائكة رب العالمين : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) (73) [الزمر : 73].
واعلموا أنكم إذا رفضتم غرور زينة الدنيا ، فكأنكم بقلوبكم في السماوات العلى ، فاجعلوا القيامة لكم (2) غرضا ترمونه بصالح الأعمال ، ولا تقتدوا (3) في ذلك بمنتهى سبيل الأخيار فتكونوا بعرض ملال ، يحط من كبار (4) الأعمال إلى صغارها ، ومن تفضيلها إلى احتقارها ، ولكن تناولوا طرفا من الصيام ، وطرفا في (5) الليل من القيام ، وتفهموا ما تتلون فيه من أجزاء القرآن ، وسبحوا لله واذكروه في آناء الليل وأطراف النهار ، فإنه يقول سبحانه: ( اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا ) (42) [الأحزاب : 41 42]. ويقول سبحانه : ( يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) (4) [المزمل : 1 4]. ويقول سبحانه: ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) (79) [الإسراء: 79].
صفحہ 351