قالها في هدوء وهو في شوق إلى ما يقوله الرجل الحكيم. - شوف يا عبد الحق، أنا شخصيا لا أحدث نفسي يوما بأن أرفع وجهي في وجه رئيسي. يجب أن يعرف كل إنسان حده؛ هذا رئيس، وهذا مرءوس. لقد علمني أبي - ألف رحمة عليه - وهو الذي أمضى في خدمة الحكومة أربعين عاما - كيف أعامل علية القوم. أتدري ماذا كان يقول لي؟ - ماذا كان يقول؟ - يا منصور يا ابني لا تنظر إلى فوق. انظر إلى من هم دونك دائما. هذه مواعظ القدماء يا منصور أفندي. - كذب. كذب.
وهاج عبد الحق أفندي، وأخذ يذرع الغرفة الضيقة مرة أخرى وهو يتميز من الغضب. - هل نحن عبيد؟ لا. وإذا كان الإنسان قد اختار أن يكون عبدا فإن له الحق في أن يطلب الحرية يوما. أليس له الحق في ذلك؟ أليس له الحق يا عبد الرحيم أفندي؟ ولم يرد عبد الرحيم أفندي، فعاد يقول: أقول إن الإنسان إذا ما وضع في السجن فله الحق في أن يفكر في الحرية. - لا. كان هذا هو صوت محمود أفندي البنهاوي. إذا وجد الجميع أنفسهم في السجن فليس لكلمة الحرية معنى. فزأر عبد الحق أفندي: لا، لا. إنني لا أتفق معك. الحرية لا يعرفها إلا المساجين. أليس كذلك يا محمود؟ - هيه. سبعة وخمسين وخمسة. هيه. ماذا تقول؟ - أقول إن الناس لم يولدوا عبيدا. - هيه. اثنان وسبعين وسبعة. هل قلت إن الناس عبيد؟ - قلت وسأقول دائما إنهم ليسوا عبيدا، إنهم ولدوا أحرارا، ألم يقل ذلك عمر بن الخطاب؟
فأجابه محمود أفندي البنهاوي الذي كان قد فرغ من شرب قهوته: بل نابليون.
وزعق عبد الحق أفندي كأنه بطل محارب يبارز خصما عنيدا، ويجرد سيفه ليطعنه في صدره. - غدا سترون أنني رجل حر. هل قلت غدا؟ الآن سترون كل شيء، وسيصير هذا العجوز المتعجرف مسخة للجميع! الآن سترون!
الساعة الثامنة والنصف.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب محمود أفندي البنهاوي، وشد كرسيا جلس عليه وهو يمسح العرق المتصبب من وجهه. لقد ضبط أعصابه عن ذي قبل، ويستطيع الآن أن يزن الأمر في تعقل. - لقد قال لي أنت أحمق. هل أنا أحمق؟ وهل توظف الحكومة الحمقى في دواوينها؟
قلب محمود أفندي غلاف الملف الذي كتب عليه بالثلث بخط أسود كبير: «أذونات الصرف.» وما لبث أن قال: السن له حكمه. أريد أن أراجع ملف المهايا فأخطئ وأراجع الأذونات.
وعاد عبد الحق أفندي يقول: قل يا محمود أفندي، قل لي بالحق. نعم، إني أحب أن أقف إلى جانب الحقيقة ولو شنقوني.
فوضع محمود أفندي يده على خده وأنصت إليه قائلا: هل يمكن أن ينجو الإنسان من الخطأ؟ أليست العصمة لله وحده؟ وللأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - خطأ بسيط في المراجعة يستحق أن يهان من أجله رجل طويل عريض مثلي؟ - وهل أهانك حقا؟! - سبحان الله! ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب أيضا؟! - لم أسمع شيئا من هذا؟ - تسمع؟ ألم يصرخ في وجهي أمامكم جميعا؟ - يا عبد الحق أفندي، عندك كم ولد؟ - عندي كم ولد؟ ستة. - في سبيل لقمة العيش، أحتمل، يا ما تحملنا. - أنا أدافع عن شرفي، عن كرامتي. أنا رجل شاب شعره في الديوان. قل لي بالله، أليس لي الحق أيضا في أن أدافع عن شرفي؟ - يجب أن تدافع عن رزق أولادك أولا. خمسة وستين وسبعة. وبدأ يراجع نهرا طويلا من الأرقام.
الساعة التاسعة إلا ربعا.
نامعلوم صفحہ