ولا ريب أن الفنان الصناع يتلهى ويتفكه، وهو يمسخ قيم التشكل أو يطمسها، فالرسم والحجم والعمق، وجملة اللواحق تسترسل جميعا إلى لعب، ولكنه لعب فني لا غش فيه، تتصرف عنده جرأة الأنامل الساذجة بإشارة من لوائح مستترة تذهب وتجيء كيفما شاءت (اللوح 3أ، 3ب، اللوح 4أ، 4ب). فكأن الابتداع ينحدر من هضبات الفكر الثابتة لكي يظفر، غير متورع، بما هو دونه في نفاسة الجوهر بمظاهر الدنيا، هذا أسلوب حقيق أن ينبئ بإرادة المصور «جوان جري»، أحد زعماء المذهب التكعيبي، المتوفى سنة 1927، وهو إسباني، بل أندلسي لأمه، قال جري: «أنا أذهب من المجرد حتى أبلغ الذي هو حاصل في الواقع.»
ثم إن ذلك اللعب الفني يملي إملاءة سكرى، يمرح في سطورها ابتهاج وادع كره الإحاطة بالمادة. فرفض الاستيلاء على جملتها (اللوح 5ب). وأنت تجد عنفوان هذا الطرب إلى الاقتضاب المبتكر، هذا التلذذ بما لم ينبض به حدس، في ألواح كثيرة صنعها المصور الإسباني «بيكاسو» الطائر الصيت في آفاق العالم (اللوح 5أ)، بيكاسو الذي ولد في الأندلس، في ملقة سنة 1881، وما كل ولا يكل من تحريف صيغ الفن عن مبانيها المعهودة، فيتمادى في تسخير الأشكال الحاصلة في الواقع لشهوة الزينة التي ركبت في مزاجه، وهي شهوة جامحة تتمثل في رسم وجداني لا يخلو من القلق النفساني، إلا أنه قلق لا يستصبح بأنوار السماء.
هذا، والأسلوب العربي-الإسلامي يصرف الفنان عن تجسيم الأشكال التجسيم البالغ أو الوثيق، فتراه يقنع بأن يومض إلى النتوء، والصورة التي فيها عري لا يتمادى في إبراز ملامحها: لا نبرة ولا خرجة ولا وثبة بينة. فما كل هذه على التحقيق سوى إضافات واهية خارجية، إنما هن مخايل «زينة» تلحق بفضول كون يحيط به الباطل:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة (الحديد: 20)،
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها (القصص: 60)، قل:
ومتاع إلى حين (الأعراف: 24).
وإذا كانت الأشكال المجسمة ضربا من ضروب الزينة، فهي تولد فنا غايته الترويح. ومن هذه الطريق انقلب التشكيل إلى تنميق؛ فالعبث، بأشرف معانيه، مآل الفن إذن، لا مصدره، وإن قال النقاد عكس هذا من قبل.
4
هذا النمط من التشكيل يساير مذهبا غالبا في الفن الإفرنجي الحاضر، هو «مخالفة الطبيعة» إلى ما ينشأ عنه من «محو الخصائص البشرية.» وذلك بأن هذا النمط مصدره العزم على الفرار من مظاهر العالم لحقارتها ولشبهتها، وكذلك الرغبة في طي الطاقة البشرية تحت أداء إنما هو تجريدي بالطبع (اللوح 6، اللوح 7).
غير أن هدم الشكل أو بتره أو تخليعه أو تحويله، هيهات أن تأتي جميعا - في الفن الإسلامي - من وراء تدبير منقبض عن مرح الحياة، طامع في تحرير الغريزة مع إطلاق قواها، حتى يدعها تتلقى صور العدم والفجيعة والاعتلال والشناعة، على نحو ما تتلقاها غرائز طائفة من المصورين المحدثين في الغرب، أنصار «مدرسة باريس».
نامعلوم صفحہ