ومن حيث إن اللون يجري مجرى أداة للتأويل تعظم قدرته من أخذ البصر؛ وذلك لأنه يستنشق الهواء الذي يكتنف الأشياء، لكي ينقل تطوس جمالها الباطن، من طريق الإحساس الصرف.
وهنا تعرض لامعة من لوامع «برجسن»، الفيلسوف الفرنسي المحدث قال: «إن الفن يجري إلى إلقاء ضروب من الشعور في خواطرنا، من باب الإيهام، أكثر منه إلى الإفصاح عنها، وهو يعرض راضيا عن محاكاة الطبيعة متى وجد طرائق نافذة.» هذه نزعة حديثة ترجع في نهاية تطوفها إلى تصور من تصورات «أفلوطين» الفيلسوف الإسكندري، في باب الجمال.
إن اللون - إذن - عنصر كريم من عناصر الخلابة. يبين ذلك كلام غاية في اللطف للمظفر ابن قاضي بعلبك الفيلسوف (الذيل 5). ولهذا ينافس الشكل أي منافسة، ووسيلته صلة تمور بين طبقات الأصباغ في موافقاتها ومبايناتها، وهذا تعبير شرقي قديم العهد يعود إلينا في بهائه، وهو يناقض الأسلوب الاتباعي الذي علا في عصر «النهضة» في الغرب، ذلك الأسلوب المشغوف بالرسم الظاهر، حتى إنه يزدري «الإحساسات الملونة» التي لحظها ودونها الفنان الفرنسي «سيزان» أبو التصوير الحديث.
وذلك التعبير الشرقي يدع دقائق الوجدانيات الصادقة تسيل في أجزاء الألوان المختارة: صبغ خامد، وآخر كامد، كأن كليهما صدى خفي لتحرج أهل السنة، وصبغ يمس المتاع المنقش في دعة تقطر بالندى، كأنه النسيم «العليل البليل» الذي طالما به همس الشعراء القدامى. ثم صبغ مضنى، لعله من مدات مغنية شفها الحب فأرادت أن تموت، على ما وصف التوحيدي من ظرائف الشدو في «الإمتاع والمؤانسة»، وثم أصباغ سلت من صفاء المعدن، بين مملسة ومحببة، يتلألأ أحدهما وسط المنقش أو يتطوس حواليه، كأنه يستقى من ماء الجواهر الفائقة النادرة التي كان يختزنها الخلفاء في القاهرة. ثم إنه قد تحتد جلسات الألوان، كما يحتد على المناديل التي تشدها صغائر فلاحاتنا على رءوسهن، هذه جسات رسموها كأنها من وحي التعاويذ، ولك أن تتأملها على تلك الأطباق والأكواب التي عثروا عليها في الفيوم، من أعمال مصر، من زمن قريب؛ لطخات تجاورت على شدة، وبقع يتردد فيها شبه فجاجة، ذاك أداء كأن آلته تزمر وتطبل، وقد وثبت من جوف أرض مصرية، فيما بين القرن الرابع والسادس للهجرة (اللوح 13ب).
والحديث لعمري يطول في خصائص الألوان الإسلامية، هي معدودة إلا أنها زخارة فياضة مواجة، تصب سحرها على سطوح مبسوطة، وهذه الصفات تصلح لفن الألوان السائد وقتنا هذا في باريس، وللمصور الفرنسي المعاصر «ماتيس» ولأصحابه أن ينتحلوها.
8
أما الخط - ذلك «المعنى الساكن» كما قالوا (الذيل 6) - فهو إشارة كلها وقار، بنيت على وضع معلوم، ثم هو سمة لإيمان يجيش بتعظيم الخلاق.
ذاع القرآن فانتشر الخط، ثم حرره الحذاق من الكتاب حتى بلغ الكمال، فجاءت حروف الكتابة الأولى أكثر ما جاءت، وهي مستقيمة منبسطة، وكادت تختص بها المصاحف ورقاع المدائح والصلوات والابتهالات والدعوات، حتى إن الحروف عدلت عن اللين الظاهر في الخط الدارج المرسل إلى يبس هو آية الخط الجليل المحقق، سواء كان ذلك في مسطور أو مسبوك أو محفور أو منحوت (اللوح 14أ، 14ب، 14ج).
وما كان بد من تجميل الخط: إن الله الذي هو
ربك الأكرم
نامعلوم صفحہ