ركبتا دراجتيهما في هدوء وهما تشعران أنهما تخليتا عن شيء ما، ولكن دون سخط. •••
بفناء بيت كلايتون الخلفي كان هناك الكثير من القوائم لدعم السور الخشبي، أو لمحاولة دعمه، وعلى تلك القوائم أمضت إيفا وكارول عدة أمسيات جلوسا، بمرح ولكن ليس بشكل مريح للغاية، أو تكتفيان بالاتكاء على السور في حين يعمل الأولاد على إصلاح القارب. خلال أول أمسيتين كان أطفال الحي ينجذبون لأصوات الدق محاولين الوصول إلى الفناء لمعرفة ما يجري، ولكن إيفا وكارول كانتا تسدان عليهم الطريق. «من قال لكم أن تأتوا إلى هنا؟» «نحن جئنا بأنفسنا وحسب.»
غدا المساء أكثر طولا، وصار الهواء أكثر اعتدالا. بدأ الأطفال يلعبون نط الحبل على الأرصفة. كذلك على طول الشارع كان هناك صف من شجر القيقب الصلب الذي كان هدفا للأطفال؛ حيث يشربون سوائله بمجرد سقوطها في الدلاء. أما الرجل والمرأة العجوزان اللذان يمتلكان الأشجار، واللذان يعتزمان صنع شراب القيقب، فكانا يهرولان من المنزل محدثين ضجة كما لو كانا يحاولان إخافة الغربان. وأخيرا، وفي كل ربيع، يقف الرجل العجوز في شرفة منزله ويطلق النار من بندقيته في الهواء، ومن ثم يتوقف الأطفال عن سرقتهما.
لم يكلف أحد ممن يعملون على إصلاح القارب نفسه عناء سرقة الشراب، مع أن هذا كان ديدنهم الموسم الماضي.
كانوا يجمعون الأخشاب اللازمة لإصلاح القارب من هنا وهناك من الممرات الخلفية. ففي هذا الوقت من العام تتوافر الأشياء في شتى الأرجاء؛ من ألواح خشبية وفروع أشجار وقفازات مشبعة بالماء وملاعق جرفتها مياه غسل الصحون وأغطية علب الحلوى، وكل الحطام الذي يمكن أن يسلم وينجو من فصل الشتاء. هذا وقد استعانوا بأدوات من قبو كلايتون - التي يفترض أنها كانت ملك والده قبل وفاته - ومع أنه لم يكن هناك من يقدم لهم المشورة، إلا أن الأولاد بدوا على معرفة بكيفية بناء القوارب، أو إعادة بنائها. كان فرانك يستعين بالرسومات من الكتب ومجلة بوبيولار ميكانيكس. كان كلايتون ينظر في تلك الرسومات ويستمع لفرانك وهو يقرأ التعليمات؛ ومن ثم ينطلق مقررا تنفيذ ما يجب فعله بطريقته الخاصة. أما بود فكان أبرعهم في نشر الخشب. فيما اكتفت إيفا وكارول بالفرجة من عند السور موجهتين النقد ومفكرتين في أسماء للقارب، مثل: زنبق الماء، حصان البحر، ملكة الفيضانات، وأخيرا كارو-إيف على اسميهما؛ لأنهما هما من عثرتا عليه. ولم يبد الأولاد رأيهم في أي الأسماء نال إعجابهم من بين تلك الأسماء، إن كان أي منها نال إعجابهم من الأساس.
كان يجب طلاء القارب بالقطران. أخذ كلايتون يسخن وعاء القطران على موقد المطبخ، ثم أحضره خارجا وأخذ يدهن القارب ببطء، متوخيا الدقة، وجالسا منفرج الساقين فوق القارب المقلوب، فيما كان الولدان الآخران ينشران لوحا من الخشب لصنع مقعد جديد. فقد القطران حرارته واكتسب ثخانة، حتى إن كلايتون لم يستطع تحريك الفرشاة به أكثر من ذلك، فالتفت إلى إيفا وناولها الوعاء، قائلا: «ادخلي المنزل لتسخين هذا الوعاء على الموقد.»
أخذت إيفا الوعاء وصعدت السلم الخلفي. بدا لها المطبخ حالك السواد بعد مجيئها من الخارج، ولكن لا بد أنه كان مضيئا بما يكفي لأن يرى المرء بداخله؛ نظرا لأن أم كلايتون كانت تقف على طاولة الكي وتكوي. كانت تفعل ذلك من أجل لقمة العيش، حيث تقوم بالغسيل والكي. «رجاء سيدتي، هل يمكنني وضع وعاء القطران على الموقد؟» قالتها إيفا بأدب جم، ولا عجب فقد تربت على احترام الكبير، حتى المشتغلات في الغسيل والكي ، فلسبب ما أرادت ترك انطباع إيجابي لدى والدة كلايتون.
أجابتها والدة كلايتون، قائلة: «عليك إذن أن تكبسي الموقد حتى تشعلي النار.» وكأنها تشك في أن إيفا تعرف كيف تفعل ذلك، إلا أن إيفا فهمت المراد، وأمسكت غطاء الموقد وأخذت المكبس وظلت تكبس حتى أوقدت اللهب، ثم شرعت تقلب القطران حتى خف قوامه؛ مما جعلها تشعر بالسعادة عندئذ وفيما بعد. قبل أن تخلد إلى النوم طاف في خيالها صورة كلايتون؛ رأته يجلس منفرج الساقين فوق القارب، يدهنه بالقطران بهذا التركيز، والدقة، والاستغراق. فكرت فيه وهو يتحدث معها، من منعزله، بتلك النبرة الآمرة ولكن بشكل عفوي مسالم لا تملك إلا أن تستجيب له. •••
في الرابع والعشرين من مايو، وهو يوم عطلة من المدرسة في منتصف الأسبوع، حمل الأولاد القارب خارج البلدة، قاطعين الآن شوطا طويلا عبر الحقول والأسوار التي تم إصلاحها، إلى حيث تدفق النهر بين ضفافه الطبيعية. تناوب كل من إيفا وكارول، وكذلك الأولاد، حمل القارب، الذي انطلق في الماء من بقعة قاحلة داستها الأبقار بين شجيرات الصفصاف التي أنبتت وريقاتها حديثا. ذهب الأولاد أولا، وصاحوا صيحة النصر عندما طفا القارب، وجرى مع تيار النهر على نحو مثير للدهشة. كانوا قد دهنوه باللون الأسود من الخارج، وباللون الأخضر من الداخل، مع دهان مقاعده باللون الأصفر، فيما أحاطوه بخط أصفر على طول محيطه من الخارج. لم يكن عليه أي اسم على كل حال؛ إذ رأى الأولاد أنهم ليسوا بحاجة لتسميته لتمييزه عن القوارب الأخرى في العالم.
ركضت إيفا وكارول على طول الضفة، حاملتين حقائب مليئة بشطائر زبدة الفول السوداني والمربى والمخللات والموز وكعك الشوكولاتة ورقائق البطاطس ومقرمشات جراهام، إضافة إلى شراب الذرة وخمس زجاجات كولا لتبريدها في مياه النهر. كانت الزجاجات تصطدم بأرجلهما. صاحتا إنه دورهم، وصرخت كارول حانقة: «إن لم يعطونا دورنا فما هم إلا أوباش.» ثم صاحتا معا: «نحن من وجدتاه! نحن من وجدتاه!»
نامعلوم صفحہ