إن هذا الحادث يعد محنة بالنسبة إلى السلطان محمد، ولكنه كان بالنسبة إلى الدولة منحة عظمى وسعادة لا تقدر.
ومن البديهي أن أعظم مدرسة لعظماء الرجال هي دار الهوان، وأن أقوى مهذب وأصلح مصلح للنفوس العالية هو الصغار والاحتقار.
وقف الفاتح أيام عزلته الطويلة لطلب العلا، فكان يستفيد من درس نكبته مواعظ وعبرا، ويستفيض من العلم غررا ودررا، حتى يتمكن من التوفيق بين العلم والحكم.
وقد أزهرت مساعيه وأثمرت بتعلمه اللغات العربية والفارسية واللاتينية واليونانية والعبرية (لكونها تمكنه في العربية)، التي توصل بها جميعها إلى كنوز الشرق وحصل معها على ذخائر الغرب، فلم يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها. أما العلوم العقلية والنقلية فإنه برع بأصولها وفروعها، واطلع على سرائر إدارة الحكومات إلى حد يمكنه معه أن يسير بحكومته على خطوات ثابتة وصراط مستقيم.
استتم الفاتح ما يلزمه من العلم، وبقي في مغنيسيا ينتظر ما يأتي به القدر، إلى أن وافاه خبر وفاة والده المبرور، فخشية من أن يلعب معه خليل باشا الوزير الأكبر دورا ثانيا ويرجع صفر الكف خالي الوفاض من السلطنة؛ امتطى جواده وخاطب من حوله قائلا: «من كان يحبني فليتبعني.»، وسار في طريقه لا يلوي على شيء حتى وصل إلى أدرنة.
كان الفاتح ربعة، قوي العضلات، ضخم الأعضاء، عريض ما بين المنكبين، غزير شعر الحواجب مقوسها، أبيض اللون مشربا بحمرة، فاحم الشعر كث اللحية، قصير العنق، يسبقه رأسه إلى الأمام عند مشيه، أما بقية أوصافه التي تدل دلالة واضحة على دهائه المفرط وذكائه النادر ونظره البعيد ومرحمته الغريزية وحبه للظهور وكفاءته للحروب، فهي سعة جبينه، ونقاؤه، ونور عينيه الجوال الذي يخترق أستار الحجب، وأنفه اللطيف القائم على قمة فمه الوردي.
استقبل الجند سلطانهم الجديد ولم يبق للروابط القديمة بينهما عين ولا أثر؛ لأنهم فارقوه صبيا صغيرا وأنستهم الأيام ما آنسوه فيه من الهمة والكفاءة، حتى إنهم لم يكادوا يذكرونه لتغيير شكله وزيه، وقد تمثل أمامهم بطلا ضخما يحاكي أجداده العظام، مما أدى بهم إلى الهناء بعد ذلك العناء الذي عقب وفاة ملك كان ينتقل بهم من نصر إلى نصر، ومن فخر إلى فخر.
وكأننا بهم يرددون قول الشاعر:
هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسما
نامعلوم صفحہ