ما كان في بدء أمره لشدة عجبه بالفلسفة وحبه لها وحرصه على صرف زمان الشهوات والشغل باللذات إليها ومؤاتاة طبعه له على ذلك، واستخفافه واسترذاله لمن لم يلاحظ الفلسفة بالعين التي تستحق أن تلاحظ بها وآثر ما هو أخس منها عليها. ولا بد في أول الأمور المشوقة المعشوقة من فضل إليها وإفراط في حبها ولزومها وشنآن المخالفين فيها، حتى إذا وغل فيها وقرت الأمور به قرارها سقط الإفراط فيها ورجع إلى الاعتدال، كما يقال في المثل لكل جديد لذة فهذه كانت حالة سقراط في تلك المدة من عمره، وصار ما أثر عنه من هذه الأمور أشهر وأكثر لأنها أطرف وأعجب وأبعد من أحوال الناس، والناس مولعون بإذاعة الخبر الطريف النادر والإضراب عن المألوف والمعتاد. فلنا إذا بمخالفين للأمر الأحمد من سيرة سقراط وإن كنا مقصرين عنه في ذلك تقصيرا كثيرا ومقرين بالنقص عن استعمال السيرة العادلة وقمع الهوى العلم والحرص عليه. فخلافنا إذا لسقراط ليس في كيفية السيرة بل في كميتها بمنتقصين إن أقررنا بالنقص عنه إذ كان ذلك هو الحق وكان الإقرار بالحق أكثر شرفا وفضيلة. فهذا ما نقوله في هذا الموضع وأما ما عابوه من سيرتي سقراط فإنا نقول: إن المعيب منها بحق أيضا كميتها لا كيفيتها إذ من البين أنه ليس الانهماك في الشهوات وإيثارها الأمر الأفضل الأشرف على ما بينا في كتابنا في الطب الروحاني لكن الأخذ من كل حاجة بمقدار ما لا بد منه أو بمقدار ما لا يجلب ألما يفضل على اللذة المصابة منها. وقد رجع سقراط عن المفرط منها الذي هو المعيب بالحقيقة والداعي إلى خراب العالم وبوار الناس، إذ قد عاد إلى أن أنسل وحارب
صفحہ 100