25- من كتابه في صناعة الكلام
صفحہ 241
فصل من صدر كتابه في صناعة الكلام
ذكرت - حفظك الله - تفضيلك صناعة الكلام، والذي خصصت به مذهب النظام، وشغفك بالمبالغة في النظر، وصبابتك بتهذيب النحل، مع أنسك بالجماعة، ووحشتك من الفرقة، والذي تم عليه عزمك من إدامة البحث والتنقير ومن حمل النفس على مكروهها من التفكير، ومن الانتساب إليهم والتعرف بهم. والذي تهيأ لك من الاحتساب في الأجر، والرغبة في صالح الذكر، والذي رأيت من النصب للرافضة والمارقة، وطول مفارقة المرجئة والنابتة، ولكل من اعترض عليهم، وانحرف عنهم، والذي يخص به الجبرية ويعم به المشبهة.
صفحہ 243
فيأيها المتكلم الجماعي، والمتفقه السني، والنظار المعتزني، الذي سمت همته إلى صناعة الكلام مع إدبار الدنيا عنها، واحتمل ما في التعرض للعوام من الثواب عليها، ولم يقنعه من الأديان إلا الخالص الممتحن ولا من النحل إلا الإبريز المهذب، ولا من التمييز إلا المحض المصفى. والذي رغب بنفسه عن تقليد الأغمار والحشوة، كما رغب عن ادعاء الإلهام والضرورة، ورغب عن ظلم القياس بقدر رغبته في شرف اليقين:
إن صناعة الكلام علق نفيس، وجوهر ثمين، وهو الكنز الذي لا يفنى ولا يبلى، والصاحب الذي لا يمل ولا يغل، وهو العيار على كل صناعة، والزمام على كل عبارة، والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شيء ورجحانه، والراووق الذي به يعرف صفاء كل شيء وكدره، والذي كل أهل علم عليه عيال، وهو لكل تحصيل آلة ومثال.
ألا إنه ثغر والثغر محروس، وحمى والحمى ممنوع، والحرم مصون، ولن تصونه إلا بابتذال نفسك دونه، ولن تمنعه إلا بأن تجود بمهجتك ومجهودك، ولن تحرسه إلا بالمخاطرة فيه. والثواب على قدر المشقة، والتوفيق على مقدار حسن النية.
وكيف لا يكون حرما وبه عرفنا حرمة الشهر الحرام والحلال المنزل، والحرام المفصل؟ ! وكيف لا يكون ثغرا وكل الناس لأهله عدو، وكل الأمم له مطالب.
صفحہ 244
وأحق الشيء بالتعظيم، وأولاه بأن يحتمل فيه كل عظيم ما كان مسلما إلى معرفة الصغير والكبير، والحقير والخطير، وأداة لإظهار الغامض، وآلة لتخليص الغاشية، وسببا للإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب.
وبه يستدل على صرف ما بين الشرين من النقصان، وعلى فضل ما بين الخيرين من الرجحان، والذي يصنع في العقول من العبارة وإعطاء الآلة مثل صنيع العقل في الروح، ومثل صنيع الروح في البدن.
وأي شيء أعظم من شيء لولا مكانه لم يثبت للرب ربوبية، ولا لنبي حجة، ولم يفصل بين حجة وشبهة، وبين الدليل وما يتخيل في صورة الدليل. وبه يعرف الجماعة من الفرقة، والسنة من البدعة، والشذوذ من الاستفاضة.
فصل منه
صفحہ 245
واعلم أن لصناعة الكلام آفات كثيرة، وضروبا من المكروه عجيبة، منها ما هو ظاهر للعيون والعقول، ومنها ما يدرك بالعقول ولا يظهر للعيون، وبعضها وإن لم يظهر للعيون وكان مما يظهر للعقول فإنه لا يظهر إلا لكل عقل سليم جيد التركيب، وذهن صحيح خالص الجوهر، ثم لا يدركه أيضا إلا بعد إدمان الفكر، وإلا بعد دراسة الكتب، وإلا بعد مناظرة الشكل الباهر، والمعلم الصابر. فإن أراد المبالغة وبلوغ أقصى النهاية، فلا بد من شهوة قوية، ومن تفضيله على كل صناعة، مع اليقين بأنه متى اجتهد أنجح، ومتى أدمن قرع الباب ولج.
فإذا أعطى العلم حقه من الرغبة فيه، أعطاه حقه من الثواب عليه.
فصل منه
ومن آفات صناعة الكلام أن يرى من أحسن بعضها أنه قد أحسنها كلها، وكل من خاصم فيها ظن أنه فوق من خاصمه حتى يرى المبتدىء أنه كالمنتهي ويخيل إلى الغبي أنه فوق الذكي. وأيضا أنه يعرض عن أهله وينصب لأصحابه من لم ينظر في علم قط، ولم يخض في أدب منذ كان، ولم يدر ما التمثيل ولا التحصيل، ولا فرق ما بين الإهمال والتفكير.
صفحہ 246
وهذه الآفات لا تعتري الحساب ولا الكتاب، ولا أصحاب النحو والعروض، ولا أصحاب الخبر وحمال السير، ولا حفاظ الآثار ولا رواة الأشعار، ولا أصحاب الفرائض، ولا الخطباء ولا الشعراء، ولا أصحاب الأحكام ومن يفتي في الحلال والحرام، ولا أصحاب التأويل، ولا الأطباء ولا المنجمين ولا المهندسين، ولا لذي صناعة ولا لذي تجارة، ولا لذي عيلة ولا لذي مسألة.
فهم لهذه البلية مخصوصون، وعليها مقصورون، فللصابر منهم من الأجر حسب ما خص به من الصبر. وهي الصناعة لا يكاد تظهر قوتها ولا يبلغ أقصاها إلا مع حضور الخصم.
ولا يكاد الخصم يبلغ محبته منها إلا برفع الصوت وحركة اليد، ولا يكاد اجتماعهما يكون إلا في المحفل العظيم والاحتشاد من الخصوم، ولا تحتفل نفوسهما، ولا تجتمع قوتهما، ولا تجود القوة بمكنونها وتعطي أقصى ذخيرتها، التي استخزنت ليوم فقرها وحاجتها، إلا يوم جمع وساعة حفل. وهذه الحال داعية إلى حب الغلبة.
وليس شيء أدعى إلى التغلب من حب الغلبة. وطول رفع الصوت مع التغلب، وإفساد التغلب طباع المفسد، يوجبان فساد النية، ويمنعان من درك الحقيقة. ومتى خرجا من حد الاعتدال أخطآ جهة القصد.
صفحہ 247
وعلم الكلام بعد ملقى من الظلم، متاح له الهضم. فهو أبدا محمول عليه ومبخوس حظه وباب الظلم إليه مفتوح، لا مانع له دونه. والعلم بما فيه من الضرر يخفى على أكثر العقلاء، ويغمض على جمهور الأدباء. وإذا كان ملقى من أكبر العقلاء، ومخذولا عند أكثر الأدباء، فما ظنك بمن كان عقله ضعيفا ونظره قصيرا؟ بل ما ظنك بالظلوم الغادر، والغمر الجاسر؟ فهذا سبيل العوام فيه، وجهل عوام الخواص به، وانحرافهم عنه، وميل الملوك عليه، وعداوة بعض لبعض فيه.
وصناعة الكلام كثيرة الدخلاء والأدعياء، قليلة الخلص والأصفياء والنجابة فيها غريبة، والشروط التي تستحكم بها الصناعة بعيدة سحيقة؛ ولدعي القوم من العجز ما ليس لصحيحهم، ولردي الطبع في صناعة الكلام من ادعاء المعرفة ما ليس للمطبوع عليها منهم، بل لا تكاد تجده إلا مغمورا بالحشوة مقصودا بمخاتل السفلة.
ومن مظالم صناعة الكلام عند أصحاب الصناعات أن أصحاب الحساب والهندسة يزعمون أن سبيل الكلام سبيل اجتهاد الرأي، وسبيل صواب الحدس، وفي طريق التقريب والتمويه، وأنه ليس العلم إلا ما كان طبيعيا واضطراريا لا تأويل له، ولا يحتمل معناه الوجوه المشتركة، ولا يتنازع ألفاظه الحدود المتشابهة. ويزعمون أنه ليس بين علمهم بالشيء الواحد أنه شيء واحد وأنه غير صاحبه فرق في معنى الإتقان والاستبانة، وثلج الصدور والحكم بغاية الثقة.
صفحہ 248
فصل منه
فلو كان هذا المهندس الذي أبرم قضيته، وهذا الحاسب الذي قد شهر حكومته، نظر في الكلام بعقل صحيح وقريحة جيدة، وطبيعة مناسبة، وعناية تامة، وأعوان صدق وقلة شواغل، وشهوة للعلم، ويقين بالإصابة، لكان تهيب الحكم أزين به، والتوقي أولى به. فكيف بمن لا يكون عرف من صناعة الكلام ما يعرفه المقتصد فيه، والمتوسط له.
على أنا ما وجدنا مهندسا قط ولا رأينا حاسبا يقول ذلك إلا وهو ممن لا يتوقى سرف القول، ولا يشفق من لائمة المحصلين، وقضيته قضية من قد عرف الحقائق، واستبان العواقب، ووزن الأمور كلها وعجم المعاني بأسرها، وعلم من أين وثق كل واثق، ومن أين غر كل مغرور.
وعلى أنهم يقرون أن في الحساب ما لا يعلم، وأن في الهندسة ما لا يدرك ولا يفهم. والمتكلمون لا يقرون بذلك العجز في صناعتهم، وبذلك النقص في غرائزهم.
فصل منه
صفحہ 249
وأقول: إنه لو لم يكن في المتكلمين من الفضل إلا أنهم قد رأوا إدبار الدنيا عن علم الكلام، وإقبالها إلى الفتيا والأحكام، وإجماع الرعية والراعي على إغناء المفتي، وعلم الفتوى فرع؛ وإطباقهم على حرمان المتكلم، وعلم الكلام أصل، فلم يتركوا مع ذلك تكلفه، وشحت نفوسهم عن ذلك الحظ، مخافة إدخال الضيم على علم الأصل، وإشفاقا من أن لا تسع طبائعهم اجتماع الأصل والفرع، فكان الفقر والقلة آثر عندهم مع إحكام الأصول، من الغنى والكثرة، مع حفظ الفروع، فتركوا أن يكونوا قضاة، وتركوا القضاة وتعديلهم وتركوا أن يكونوا حكاما وقنعوا بأن يحكم عليهم، مع معرفتهم بأن آلتهم أتم، وآدابهم أكمل، وألسنتهم أحد، ونظرهم أثقب، وحفظهم أحضر، وموضع حفظهم أحصن.
والمتكلم اسم يشتمل على ما بين الأزرقي والغالي وعلى مادونها من الخارجي والرافضي، بل على جميع الشيعة وأصناف المعتزلة، بل على جميع المرجئة وأهل المذاهب الشاذة.
صفحہ 250